النفس حقيقتها وقواها 1/ مدخل لأهمية معرفة النفس

02-07-2024

بسم الله الرحمن الرحيم

برنامج سماحة الشيخ عبدالله الطاهر النمر الله في شهر رمضان المبارك سنة 1445هـ

 

 

النفس حقيقتها وقواها

1/ مدخل لأهمية معرفة النفس

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيِّدنا وحبيب قلوبنا محمد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين، والحمد لله الذي وفقنا لهذا وهدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نبارك لكم هذه السنة الروحية والانطلاقة الروحية الجديدة راجين من الله سبحانه وتعالى أن يهيِّئ لنا الأسباب وأن يوفّقنا لعبادته وطاعته و صيام هذه الأيام و قيام هذه الأيام و الليالي المباركة و أن يجعلها الله لنا و لكم أيام هداية و رحمة و سداد.

1/ النفس الإنسانية هي مركز عالم الخلق

في الأعوام السابقة كنا نتكلم بشكل متسلسل في عوالم الهبات الإلهية في الخلق وكيف أن الأمور تتنزل من عالم الإطلاق والغيب إلى عالم الأرض على مراحل، هذه السنة نريد أن نتكلم عن ماله المركزية في عالم الأرض وهو النفس الإنسانية وماهي حقيقتها، لأنها هي المركز الذي تدول حولها ومن أجلها كل الخليقة، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: )وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا (1) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا (2) وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا (3) وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا (4) وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا (5) وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا (6)وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ( الله هنا يقسم بأقسام عظيمة بالسماوات والشمس والقمر والنفس وتسويتها المقسم به (قد أفلح من زكاها) يعني كل هذه الأقسام توطئة وإعداد لتزكية النفس. التزكية والتدسية عملية بشرية طبيعية يعني أن أصل الحركة ليست في اختيار الإنسان فلايستطيع إيقافها، كل إنسان هو في حالة حركة فعل وانفعال إما في التزكية أو التدسية، ولكي نختار التزكية لابد من الإحاطة بحقيقة النفس وآثارها وقدراتها وأفاعيلها وأنحاء تدبيرها، وهذه المسألة بالرغم من أنها الأقرب إليك مع ذلك فهي من أغمض الأمور (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) كيف يمكن أن ينسى الإنسان نفسه؟! سوف تخفى معالم هذه النفس كيف تريد؟ كيف تفعل؟ كيف تدبر البدن؟

2/ عواقب عدم معرفة النفس

إن مركز القلق الذي تعيشه الإنسانية اليوم هو عدم معرفة النفس، بعض المفكرين يقول الإنسانية اليوم بالرغم مما وصلت إليه من إحاطة بكثير من القوانين الطبيعية واستثمارها لبلوغ مقدار كبير من الهيمنة على قوانين الأرض واستثمارها إلا أنهم أبعد ما يكونون عن معرفة النفس وآفاقها ومايترتب عليها. مما أدى إلى الإرباك في الأحاسيس والمشاعر فنجد كثير من الأمراض النفسية السائدة والشائعة عند الأمم الأخرى على وجه الخصوص، بسبب هذا الإرباك النفسي، فاليوم هناك دعوة للبحث عن الحقيقة: هل أنا انسان؟ ذكر أم أنثى؟ لعلي لست إنسانا لعلي حيوان؟ لعلي كلب محشور في بدن إنسان؟ والآن يطالبون بحقوق الكلبية؟ من باب التعبير عن النفس وحقيقتها! هذا أوضح دليل على أن الإنسان لا يعرف نفسه!.

في مورد آخر، البعض يتكلم عن حقوق العلاقة الجنسية بالأطفال، من يرغب في العلاقة بالأطفال هو هكذا رغبته البدنية، هناك ذكر يرغب في ذكر أو أنثى ترغب في أنثى أو ذكر في أنثى أو العكس وهذا يرغب في الأطفال، يعني هذه طبيعته ولاتعد هذه الطبيعة مرضا أو شذوذا!

هذا يأتي بعد أن أباحوا لأنفسهم المثلية على حسب تعبيرهم وأصبحت هناك قوانين تحميهم ومؤسسات خاصة بهم بل أصبحت ضمن القوانين الدولية بل حتى علميا تم تقريرها بأنها مسألة علمية ودخلت حتى على مستوى الشرع. كل هذا ناتج من الإرباك في عدم معرفة أنفسهم وأن هذه الإدعاءات خلاف الفطرة. ولو أن المسألة بقيت على هذا المستوى لقلنا ندعهم في شأنهم ونحن وشأننا إلا أنها امتدت إلى مجتمعاتنا.

في مورد ثالث، رجل دين يهودي يدعو إلى قتل الأطفال والنساء ويستدل ببعض النصوص الدينية على أن هذا حكم الله، يعني أن هناك أمة تبيح لنفسها قتل الأطفال، وهذا خلاف الفطرة والوجدان، حتى العربي الجاهلي كان يرى من العار ضرب المرأة والطفل، حتى في الغزو، الجاهلي يبيح قتل الآخرين وسلب الأموال ولكن إذا وصل إلى كبار السن والأطفال والنساء يستقبح ذلك، الجاهلي يرى من العيب الاعتداء على المرأة بالضرب، المرأة لها حرمة وجدانا، هذه مشاعر بشرية لا نحتاج فيها إلى تشريع، لكن هؤلاء اختلت عندهم الضوابط ومعايير تحديد الحق والباطل، فالإرباك في معرفة النفس يؤدي إلى متاهات نفسية واجتماعية وهذا ما يعيشه اليوم العالم الإنساني بقيادة الغرب على أساس أنه الأعلم والمتقدم والمتحضر، وعالمنا الإسلامي تابع له اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفكريا ولعله حتى روحيا أعاذنا الله وإياكم.

ولكن ما يهمنا نحن من نعيش هذه البيئة التي لا تزال متمسكة بأصول عقائدية وفطرية وإنسانية هو أن نحفظ أنفسنا بمقدار ما نستطيع من هذا التيار الجارف، وذلك من خلال تقرير حقيقة أنفسنا وقواها وماعلاقتها بالبدن.  

3/ أهمية البحث في حقيقة النفس وتاريخه

مسألة معرفة النفس تحتاج إلى دراسة وتأمل، نعم! نحن لدينا معرفة سطحية بأنفسنا لكن هل تكفي هذه المعرفة الظاهرية التي أتلمسها عن نفسي بحيث استطيع أن أميزها عن غيرها من النفوس من حولي؟ وأعرف مشاعري وأحاسيسي أم لابد من التعرف على حقيقة النفس وأعماقها وغرائبها.

لقد ألِّفت الكثير من الكتب في النفس حيث البحث فيها يمتد إلى أيام أرسطو وماقبله، وقد اهتم علماء المسلمين أيضا بمسألة النفس وألفوا الكتب منها كتب ابن سينا و الشيخ المفيد والشيخ الصدوق، حتى أن هناك مناقشات كثيرة بين العلماء عن خصوصيات النفس وهل هي حادثة أم قديمة مخلوقة قبل الأجساد مثلا: الشيخ المفيد ناقش الشيخ الصدوق واختلف معه في كثير من المسائل المرتبطة بالنفس منها: أن الشيخ الصدوق كان يعتقد بأن النفس خلقت قبل الأبدان اعتمادا على الرواية: (الأرواحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فماتَعارَفَ مِنها ائتَلَفَ ، وما تَناكَرَ مِنها اختَلَفَ) ، في حين يذكر الشيخ المفيد تفسيرا آخر للرواية، كذلك رواية (ألف ألف آدم) هناك من فسرها بأن الله قد خلق أكثر من سلسلة بشرية، في حين يرى بعض العلماء أن الرواية تشير إلى حركة النفس ولا يراد بها أن هناك ألف ألف آدم شخصي، وغيرها من المسائل.

4/ إمكانية معرفة النفس وضرورتها

ذكرت الكثير من الأقوال في معنى النفس حتى ذكر حسن زاده آملي رحمة الله عليها أن للنفس أكثر من 100 معنى في كتابه سرح العيون في شرح العيون. بينما ذكر الشيخ الصدوق خمسة معاني للنفس منها: ذات الشيء، الدم السائل. وقد كثُر الاختلاف في الآراء حول حقيقة النفس إلى درجة أن بعض العلماء قال باستحالة معرفتها واستشهد بذلك بالرواية: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) فمعنى الرواية هو امتناع معرفة النفس حيث لا سبيل إلى معرفة الرب، فهي من باب تعليق المحال على المحال.

ويكفي في إثبات ضرورة العمل على معرفة النفس أن نذكر عبارة أحد روّاد هذا الباب الذي يرى أن معرفة النفس هي مرقاة معرفة أسرار الكون، وهو السيد الإمام قدس سره، يقول السيد الإمام: (ولا يعلم كيفية هذا السريان -يعني كيفية خلق الله للكون- ولاحقيقة هذا التحقق والنزول -يعني تحقق الإرادة الإلهية- إلا الخلّص من الأولياء الكاملين والعرفاء الشامخين- لذلك من عرف نفسه عرف كل شيء ومن لم يعرف نفسه لم يعرف شيء، المعارف التجريبية والتكوينية كعلم النفس الاجتماعي والنفسي وغيرها ليست هي من المعارف لأنها معرفة جزئية لا تورث الطمأنينة والاستقرار النفسي عند الإنسان، المعرفة تتحقق عند أهل العرفان حيث يعيشون حقيقة الكون بالشهود الإيماني والذوق العرفاني كما يعبر السيد الإمام، ثم يقول: المرقاة هي معرفة النفس فعليك بتحصيل هذه المعرفة.

فالصلاة والعبادة كلها ضرورية لكنها مقدمات، الأصل في الوصول إلى المعرفة الحقيقية بالوجود هو معرفة النفس، لا سبيل إلى معرفة أسرار الكون إلا بتحصيل العلوم الحقة في ما يرتبط بالنفس، من عرفها عرف ربه ومن عرف ربه استقرت أموره وهدأ، لأنه سيعرف أفاعيل النفس وهي كثيرة جداـ بعضها يرتبط بعالم المادة كالمأكل والمشرب وكيفية التعامل مع المحيط والآخرين، بعضها يرتبط بعالم الأخلاق والملكات تحلم وتغضب وغيرها، وفي كل فعل تمر بمراحل عديدة نحتاج التأمل فيها كي نتعرف على كيف نتمكن من تدبيرها بالشكل الصحيح. فكل مهارة تحتاج إلى تدريب ومتابعة، النفس كذلك لا يمكن أن تصبح منضبطا تريد ما يريده الله بمجرد أن تقرر ذلك! بل يحتاج إلى تدريب ومتابعة ومعرفة بكيفية صدور الفعل من النفس كي تتمكن من السيطرة على نفسك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص. بالتالي نحن بحاجة إلى أن نتعرف على النفس في عدة آفاق، نبدأ بحقيقتها، وآثارها وماذا يترتب عليه من مسؤوليات ملقاة على عاتقنا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

الشمس: 1-7.

كنز العمال: 24660.

نهج البلاغة: خ45.

Other Images

الشيخ عبدالله النمر

Comments

No Comments Yet

Add Comment