الإيمان هو معيار ترقّي الأمم

17-08-2023

الإيمان هو معيار ترقّي الأمم

التاريخ: 22/3/1432هـ

بسم الله الرحمن الرحيم قال عزّ من قائل في محكم كتابه الكريم: )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذينَ هُمْ في‏ صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَ الَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَ الَّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ([1] إن اختلاف الانسان في الإيمان كما تقرره هذه الآية التي تقول: )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ( تقرر هذه الحقيقة التكوينية الواقعية أن سبيل فلاح الانسان هو الإيمان.

من هو المؤمن؟

المؤمن في لسان النصوص الشرعية –القرآن و الروايات- يطلق بأنحاء من الإطلاقات فقد يراد به في بعض الموارد مَن طلب حقيقة الإيمان وروح اليقين و انقطع إلى الله جل و علا و لم يشوب إيمانه شَوب شكٍّ و ريبة، و لكنه في إطلاقات أخرى يطلق على مجموع هذا الفريق الذي يلتزم باتباع الحق و الإلتزام بظواهر الشريعة فيشمل في نطاقه هذا عموم المؤمنين في مستوياتهم المتفاوتة، و قد يُطلق في أحيان ثالثة على فريق و شريحة معينة و مستوى معين. يُفهم هذا التفاوت في طبيعة إطلاق الإيمان من المحمول في الكلام و يُفهم من قرينة ما يحمله مجموع الكلام من دلائل و قرائن، هذا بالنسبة لموضوع المؤمن.

معيار تفاضل الأمم الانسانيّة

1/ الغلبة بألوانها (السياسيّة و العسكريّة و الاجتماعيّة)

طبعاً اليوم الأمم و الشعوب تتبارى في تقدّمها على الأمم الأخرى، ما هو معيار التفاوت في المباراة القائمة بين الأمم اليوم؟ ما المعيار الذي نحدد على أساسه كون هذه الأمة متقدّمة و تلك الأمة متخلِّفة؟ ، قد يغتر البعض ببعض ألوان التقدم من الغلبة السياسية و العسكرية و الإجتماعية بل قد يغتر البعض بما يتراء له من مناظر بسط اليد و الرفاه و حلو العيش،

2/ البُعد الإيماني في الأمّة

إلا أنه من الواضح جداً أننا في معيارنا الإيماني الإسلامي نعتقد أن الأمة المتقدّمة و المتحضّرة و الأمة الانسانية هي التي تحافظ على البعد الإيماني في حياة الانسان و تحفظ حقيقة الإيمان. 

منزلة المؤمن عند الله عز و جل

لاحظوا كيف ترسّخ  النصوص الدينية و الروايات الواردة عن الرسول 6 و آل بيته ( تلك المعاني السامية التي تشير إلى مقام المؤمن عند الله سبحانه و تعالى، و التي نشير إلى بعضها في ما يلي:

1/ المؤمن أكرم من المَلَك المقرّب

يقول رسول الله 6: «مثل المؤمن كمثل ملك مقرب؛ يقول أن مقام المؤمن عند الله جل و علا كمقام الملك المقرب هناك تشابه و لكن عادة ما يتبادر أننا عندما نشبّه شيء بشيء فإنه أقل مرتبة المشبّه أقل مرتبة من المشبه به من حيث التشبيه، فمثل المؤمن كمثل الملك المقرّب يبقى أن للملك المقرّب مقام عند الله و المؤمن يشبهه في ذلك حسب ظاهر الرواية،و لكن الرواية تأبى هذا المعنى، يقول الرسول6: وإن المؤمن أعظم حرمة عند الله وأكرم عليه من ملك مقرب؛ إن هذا التشبيه هو من باب تقريب الصورة، و الحال أن المؤمن أسمى عند الله من الملك المقرّب و أكرم عند الله و أرفع شأناً ثم يقول رسول الله6: وليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب ومؤمنة تائبة»[2]؛

2/ المؤمن خليفة الله في الأرض

إن الرسول 6 ينطق لنا عن لسان الله جل و علا يقول و هو في خطابه لعموم المسلمين بل في الحقيقة الخطاب موجّه لعموم الناس في ما لو انتبهوا و أقبلوا على الله جل و علا: «يابن آدم ، خلقت الأشياء لأجلك ، و خلقتك لأجلي»[3]؛ أنت نخبة الله ، أنت خليفة الله و غرضه من كل هذا الوجود ، يقول رسول الله 6 أيضاً في تشخيص مقام المؤمن عند الله و في هذه المرحلة الوجودية : «من آذى مؤمناً فقد آذاني»[4]؛ انظروا إلى مدى هذا الأثر لإيذاء المؤمن.

إيذاء المؤمن تارة يكون باليد و أخرى باللسان و ثالثة بالنظرة (من نظر إلى مؤمن نظرة يريد إخافته فقد آذاه) بل إن الله يذكره في أعدائه يقول الرسول 6 : «من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل ومن آذى الله فهو ملعون في التوراة والانجيل والزبور والفرقان»[5]؛ فهو مطرود من رحمة الله في كل الكتب السماوية محكوم عليه بالطرد و الإبعاد في كل نصوص الشرائع السماوية ، ما تأتي شريعة من الله جل و علا و لا نبوة في الأرض إلا وتحرّم مواجهة الله في مواجهة المؤمن ، فالمؤمن هو يد الله في هذا الوجود. المؤمن هو وجه الله ، فعندما يقول الله: )وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُه([6] إنما يريد من ينصر المؤمن و من يُعين المؤمن.

من جهة أخرى يقول الإمام الصادق % في تشخيص مقام المؤمن: عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد الله % يقول: «لو كُشِف الغطاء عن الناس، فنظروا إلى ما وصل ما بين الله وبين المؤمن؛ أي لو كُشف لنا حقيقة الحال؛ لأننا عندما ننظر إلى عموم الناس من الذين لا يتصفون بالإيمان ، فلو نظرنا إلى ما عند بعض الكفار  و الملاحدة من مُكنة و غلبة و بسط يد و جمال ظاهر ثم رأينا ما يعيشه المؤمن من ضنك العيش و من صعوبة الحياة لعله يقع في أنفسنا أن هذا أحسن حالة من ذاك، هذا لأننا نعيش حالة من الغبش في الرؤيا و من عدم وجود المعرفة الصحيحة يقول الإمام الصادق %:  «لو كُشِف الغطاء عن الناس، فنظروا إلى ما وصل ما بين الله وبين المؤمن ، خضعت للمؤمن رقابهم وتسهلت له أمورهم، ولانت طاعتهم، ولو نظروا إلى مردود الأعمال من السماء، لقالوا: ما يقبل الله من أحد عملاً»[7].يعني لانكسرت أفئدتهم و انكسروا للمؤمن و خضعوا له بالإنقياد و الطاعة و لتسهلت لهم الأمور.  

3/ للمؤمن الشفاعة يوم القيامة

قال الإمام الصادق %: «سمّي العبد مؤمناً لأنه يؤمن على الله فيجيز الله أمانه»[8] ؛ يعني المؤمن يضفي على الآخرين إيماناً و اطمئناناً مقابل عذاب الله يعني يشفع للناس، نص الرواية يكمّل هذا المعنى: فيجيز الله أمانه؛ و لأنه يشفع لمثل ربيع و مضر فيُشفّع؛ يعني يبسط إيمانه على الناس، فينشر بذلك الإطمئنان و الإبتعاد عن الخوف و أسباب النار و هناك يقول الكافر الذي لا يوجد له من يشفع له )ما لنا من شافعين و لا صديق حميم( يبحث عن مؤمن يمدّه بالشفاعة و اللطف فلا يجد. قال رسول الله6: «لا تزهدوا في فقراء شيعتنا، فإن الفقير منهم ليشفع يوم القيامة في مثل ربيعة و مضر. ثم قال: إنما سمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن على الله فيجيز الله أمانه. ثم قال: أ ما سمعت الله تعالى يقول في أعدائكم إذا رأوا شفاعة الرجل منكم لصديقه يوم القيامة (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) »[9].

 

4/ المؤمن مخلوق من نور الله

كماأن المؤمن خُلق من طينة الله و من نور و من طين الجنة يقول الإمام الكاظم %: «إن الله خلق المؤمن من نوره»[10] ؛ ماذا يعني المؤمن من نور الله؟

يبين ذلك العلاّمة المجلسي في البحار حيث يقول بعد أن يذكر الرواية: (أي من روح طيبة منورة بنور الله، أو من طينة مخزونة مناسبة لطينة أئمتهم) الانسان المؤمن خلقه الله من هذه الروح الطيبة.

إنّ هذه الروايات الكثيرة واردة في عنوان روايات الطينة التي تتكلم عن أصول المؤمن و أصول الكافر، كثير ما يتبادر إلى أذهان البعض أن هذا يلزم منه الجبر و عدم الإختيار لأنني إن كنت مخلوقاً من طين الجنة، فأنا من أهل الجنة و إن كنت من طين الكفر و الخبث فأنا من أهل النار. لكن هذا ليس بصحيح و أن الحق هو أن هذه الرواية تتكلم عما في إمكانية الانسان من اختيار لطريق الحق أو لطريق الباطل. إذا فهمنا هذا المعنى و هو أن المؤمن له هذا المقام و له هذه المرتبة و هذا القُرب. هنا نفهم أولية إيجاد هذا الوجود و أنه كما ذكرنا أن كل ما في هذا الوجود خُلق من أجلك و لخدمتك، ما في هذا العالم من أفلاك و سماوات و أراضي و جبال و بحار كلها مُسخّرة لخدمتك و صالحك. إن من الشنيع أن نجد الانسانية حينما تتحرر من كل القوى إلا أنها تنعكس على ما تقتضيه انسانيتها و تنركس إلى مستوى من الانحطاط! لنتأمل في ما تعيشه الانسانية اليوم من تدافع باتجاه الرذيلة و باتجاه الأهواء و باتجاه الإنتكاس. لاحظوا الأمم المتحضّرة التي أعدّت لنفسها نظاماً متشابكاً و أحسنت قيادة نفسها.

 

عاقبة الغفلة عن الإيمان كمعيار في ترقِّي الأمَم

1/ الخسران! رغم التطور المادّي و تكثُّر المعارف

الأمم التي بلغت مراتب الغلبة و بسط اليد و إطلاق الصواريخ إلى آفاق السماء و الدخول إلى تخوم الأرض للبحث عن أسباب الغلبة و اللذة و المُكنة. هذه الأمم إلى ماذا تهدف و إلى ماذا تسعى؟ خلال هذه الفترة التي عايشناها و رأيناها نجد أن الانسانية لاتزال في حالة انتكاسة و في حالة تخلّف على صعيد الإيمان و الإرتباط بالله و على صعيد هذا المعيار الأساس الذي يعطي الانسان مقام الرفعة و السمو.

بمقدار ما تتقدم الانسانية في سبيل المادة و المُكنة الأرضية وفي سبيل الإحاطة بالعلوم و المعارف ، و قد يقال أنه ما بلغت الانسانية في تقدمها ما بلغتها انسانية اليوم في اكتشاف هذه المعالم و الحقائق الكونية بل حتى في اكتشاف قواعد السماء و الأرض، و لكن كل هذه المعارف و كل هذا الكم الهائل من العلوم التي سهلت الوصول إليه آلات المواصلات الحديثة من الإنترنت و آلات الإتصال، كلها لم تشكّل منظومة معرفية و بناء أخلاقي عند الانسان، بل كلما تكثرت هذه العلوم و كلما تكثرت هذه المعارف و المعلومات كلما أربكت و شوّشت الانسان في إيمانه لأنه لم يصبّ هذه المعارف و الحقائق في ضمن منظومة و منهجاً معرفياً يرسخ بعضه البعض و يؤكد بعضه البعض ليسوقه إلى سبيل الكمال و الإطمئنان و إلى سبيل الإيمان و اليقين الذي ينعكس على نفس الانسان ببرد الحياة و لذّة العيش و اطمئنان الروح.

2/ انتشار الظلم و القلق الروحي

إن هذه المعارف عندما تُصب في ضمن منهجية مربِكة من الفلسفات المبنيّة على جهل و ظنون و شكوك فإنها لاتُنتج إلا زيادة في التخمين و زيادة في التخريص و القلق و التشويش.

مما انعكس على واقع الانسان بهذا اللون من الظلامات و هذا اللون من الآلام و الأسقام الذي لا يُتصور مقدارها، إذ الانسانية بلغت هذا المستوى الهائل من الإنتكاس و الألم، لاحظوا كم هي مفارقة مضحكة إذ أنه اليوم يبلغ الانسان قمّة المُكنة و قمة الغلبة و لكن بالنتيجة تتحول إلى قمة الألم و القلق و الضنك الروحي، حيث تعيش الانسانية اليوم هذا اللون من الألم و القلق و الإرباك. أنا لا أتكلم عن دائرة انسانية محدودة، بل أتكلم عن مجموع الحركة الانسانية على هذه الأرض.

سبيل الخروج من ظلامات الغفلة

1/ الفكر الشيعي و الشيعة

إن السبيل الوحيد للنجاة من هذا الواقع إنما هو موجود في هذه الشريعة التي يفترض أن تكونوا أنتم ممثلي هذا الاتجاه، فبكم أيها المؤمنون ، بكم أنتم ياشيعة علي بالخصوص أمل الانسانية و سبيل نجاة الانسانية و بكم الطريق الوحيد للخلاص مما تعيشه الانسانية للخلاص من هذا اللون ، فبإمكاننا نحن على ما نعيشه من ضعف و ما نعيشه من إحاطة القوى المضادة لنا إلا أننا ننطوي على –كما تؤكد الروايات mلو علم الناس ما عندكم أيها الشيعة لسارعوا إليكم كما يسارع الطير إلى النحلn لأنه يعلم ما في جوفه من عسل. إن الطيور تسارع إلى النحل. لو علم الناس ما عندكم من معرفة و علم لما تلبّثوا أن هجموا عليكم.

أيها المؤمنون أيها الأخوة: نحن في هذا الزمن نمتلك في أعماقنا و كتبنا و فكرنا من خلال ولائنا لأهل البيت عليهم السلام الطريق الوحيد و الحصري لنجاة الانسانية و لنجاتنا أيضاً. كل ما هنالك أنه يجب علينا أن نمثّل الطريق الصحيح لأهل البيت عليهم السلام أن نحقق المصداق الواقعي لهذه المنهجية الواعية المدركة لحقيقة الانسانية و ما فيه نجاة الانسانية جمعاء. لو استطعنا فعلاً أن نجسد حد أدنى من هذا الواقع الإيماني الذي تشير إليه الروايات حينما تتكلم عن المؤمن إنها تتكلم عنكم أنتم بالدرجة الأولى في ما لو مثلتم هذا اللون.

2/ الدعاء

إننا اليوم بحاجة ماسّة إلى أن نجأر إلى الله سبحانه و تعالى بأن يلحظنا بلحاظ رحمته و منّه و هدايته و أن يشفّع فينا حقيقة المؤمنين و هم أهل البيت ( ، و أن يوفّقنا إلى أن نجسّد هذه المعاني لكي نكون مدعاة و دعاة لجميع الخلق إلى سواء السبيل.

 

[1]  المؤمنون/ 1-5.

[2] البحار، ج64، ص72.

[3]  الكاشاني، علم اليقين.

[4]  البحار، ج64، ص72.

[5]  البحار، ج64، ص72.

[6]  الحديد/ 25.

[7]  البحار، ج64، ص73.

[8]  البحار، ج4، ص196.

[9]  الطوسي، الأمالي، ص47.

[10]  البحار، ج64، ص73.

صور اخري

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني