نحن و الحياة الدنيا

17-08-2023

نحن و الحياة الدنيا

التاريخ: 15/3/1432هـ

بسم الله الرحمن الرحيم قال عز من قائل في محكم كتابه الكريم: ) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ في‏ حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ([1].

نصيب الانسان من الحياة الدنيا

هذه الآية تتكلم عن حالة يصاب بها الانسان حينما يجري في زمام هواه و شهواته فإنه يستنفذ كل طاقته و كل ما آتاه الله في هذه الدنيا في سبيل الاستمتاع و التلهي و التشهي )وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ( أوتيت أيها الانسان طيبات من القوة و المكنة و الطاقة، هذه المكنة و الطاقة و الحيوية بإمكانك استنفاذها في سبيل الخير و الآخرة و الكمال و العلو و الرفعة و بإمكانك استنفاذها في سبيل المتعة فأنت بإمكانك النوم ملئ عينيك و...

نعم هناك حاجة للبدن من مأكل و مشرب و ملبس، كل ما تستنفذه في ضمن هذه الحاجة و في سبيل الآخرة فهو في حساب الآخرة، ليس من الدنيا أن تأكل و تشرب وتتمتع و تأخذ من هذه الدنيا بما هو في حاجة البدن و بما هو في قوام البدن و لكن و كما تأتي الروايات المرشدة على أنه حسبك من دنياك و من أكلك ما يقيم صلبك،  هذا المقدار الذي يقيم صلبك هو لك و في ما عدا ذلك فهو متعة و تشهي و هو تلذذ.

عواقب اتباع الشهوات

1/ عذاب الهُون

كما يستطيع الانسان أن يضع حدّاً لحاجة البدن و لكن لا يمكنه الحد مما يشتهيه و ما يتلذذ به. عندما يهوي قلب الانسان فإنه يجمع ما لا يأكل و يبني ما لا يسكن.

قد يستظهر البعض من الآية أنها في مورد الحديث عن الكفار و لا تخاطب المؤمنين كما حدث في التاريخ في بعض الوقائع عندما قام الخليفة الثاني بإيراد هذه الآية في مورد[2] فأُشكِل عليه أن هذه الآية جاءت في مورد الكفار و ذلك يستفاد من ظاهر الآية )وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذينَ كَفَرُوا( فالآية في معرض الحديث عمن كفر بالله. إلا أن هذا الفهم لآيات القرآن الكريم هو فهم سقيم فالقرآن لا يعرض الكفار بما هم طائفة معيّنة يتولّد بعضها من بعض و المسلمون طائفة في المقابل. القضية ليست بهذا النحو من التقسيم بل إن التقسيم طولي و ليس عرضي بمعنى أننا أنا و أنت متى ما سلكنا مثل هذا المسلك فإنه ينطبق علينا عنوان الكفر بنسبة، بمعنى أنه بمقدار ما نستعمل الدنيا في سبيل المتعة و في سبيل إذهاب الطيبات في حياتنا الدنيا فهذا لون من ألوان الكفر، و ذلك للملاك التي تتكلم عنه الآية القرآنية التي تقول )أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ في‏ حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ( هذا اللون من الاستمتاع و الإتباع و الإنطلاق في أسباب اللذة بمقدار ما يكون فيه متعة و لذة يكون فيه انعكاس على القلب بحالة من الإستكبار و هذه من أشد أمراض القلب فتكاً، لاحظوا أخواني الأمراض التي تعرض على الحياة الانسانية تارة تعرض على البدن عادة يقال فلان مريض أي أنه أصيب بدنه ببعض الآفات و هناك أمراض تثير التركيبة الاجتماعية و هذا أيضاً لون من ألوان المرض و لكن هناك لون من ألوان الأمراض أعمق أثراً و أشد فتكاً و هي تلك الأمراض التي تصيب قلب الانسان من الكبر و الاستعلاء و اتباع الشهوات فيصبح قلبه منكوساً و ميتاً. هذا اللون من الاستطراد في اللذات يصيب قلب الانسان بهذا اللون من الضعف و المرض  و إذا أصيب قلب الانسان بهذه الأمراض فلا علاج له إلا ما يعالجه الله عز و جل كما يقال )عَذابَ الْهُونِ( مقابل حالة التكبر، يراد له أن يزال منه، لا يزيل هذه الحالة من المرض إلا عذاب النار أعاذنا الله و إياكم منها.

2/ قسوة القلب

إن من يعيش حالة من الترف و الشبع و الغنى و الجشع نجد عنده حالة من قسوة القلب و الغلظة و قلة الشعور بأحاسيس الآخرين و آلامهم و مشاعرهم. تجد هؤلاء الذين بُسطت لهم الدنيا يتعاملون مع الآخرين بعنف و قسوة وفيأخذون لقمة الفقير من فمه ليضيفوها إلى ملايين حتى تبلغ الحالة إلى ما نجده اليوم من حكّام الجور و السلاطين عندما يتجرؤون على الناس و على دماء الناس في سبيل المُلك و السلطنة لأيام قلائل!

مسلك أهل البيت (

إن اتباع الأهواء و اتباع الشهوات بعنوانها الأوّلي قد لا يقول أحد بالحرمة و هنا تقع المشكلة أن التشريع لا يستطيع، بل التقنين الإسلامي لا يستطيع أن يضع بين يدي الانسان حدوداً في مثل هذه الموارد بمعنى أنه لا نستطيع أن نقول للانسان أنت تأكل بهذا المقدار ما فوقه هو حرام شرعاً و إنما توضع حالة من الكراهة. نعم قد تبلغ الأمور إلى لون من ألوان الحرمة الشرعية تحت عناوين ثانوية بأن يقال كل ما يضر بدنك فهو حرام شرعاً و لكن أن تأكل فوق حاجتك البدنية قد يكون فيه كراهة من باب أننا قوماً إذا أكلنا لا نشبع و من باب من أكل حتى الشبع فهو ليس منا في مضمون الرواية يعني أن الرواية تريد أن توصل الى الانسان هذا المعنى أن من أكل حتى الشبع هو ليس منا في مقام الكمال و إلا فهو منا في الإسلام، فهو منّا في الطّائفة المحقّة، و منّا في أصل الإشتراك في الدين و لكن ليس منا في مقام الكمال و الرفعة. إذ أننا قوم نأكل حتى ما قبل الشبع فيمكن وضع بعض القيود التقنينية التي تحدّ و لكن العبرة و المعيار في حركة الانسان هو إدراكه و وجدانه و ذاته و من هنا ففي الحقيقة بمقدار ما يدخل الانسان في جريه في التعامل مع الدنيا في حالة الشهوة و التلهّي فهو يخرج عن حدود الإيمان إلى حدود الكفر  و تنطبق عليه الآية و ليس كما توهم البعض أن هذه الآية تتكلم عن قوم كفار و هي لا تتكلم عن المؤمنين، إن هذا الفهم فهم سقيم للآية الكريمة.

أما أنه في حدود تطبيق المأكل و المشرب و هنا تأتي حالة الإلتباس بمعنى أن الانسان يجب أن يعيش حالة من الزهد و لكن هل يعني الزهد أن لا يأكل و لا يشرب واضح من الروايات أنها لا تدعو إلى هذا اللون من الإنقطاع عن أسباب الحياة. يجب عليك شرعاً أن تأكل و تشرب مما يقيم صلبك.

لكي لا ندخل في حالة من التيه على المستوى المصداقي في فهم الآية لنراجع أهل الحق و العزيمة في تطبيق هذه المعاني، لاحظوا رسول الله 6 الذي هو حجة الله على جميع الناس في الرواية: ، عن العيص بن القاسم ، قال : قلت للصادق جعفر بن محمد (: حديث يروى عن أبيك %؛ أي عن الإمام الباقر % أنه قال؛ هذا الراوي يسأل الصادق عن رواية تنقل عن الإمام الباقر % أن الإمام الباقر % قال: «ما شبع رسول الله 6 من خبز بر ، أهو صحيح ؟؛ لم يأكل من البر إلى حد الشبع ، هل هذه الرواية صحيحة عن رسول الله؟، فقال %: ما أكل رسول الله 6 خبز بر قط؛ يعني لا ليس كما سمعت بل أصل البر لم يأكله الرسول 6 لا أنه لم يشبع منه، ولا شبع من خبز شعير قط»[3] ؛ خبز الشعير لم يشبع منه أما خبز البر فلم يأكل منه.

عندما يضيع على الناس المسلك الواقعي في الخارج على مستوى المصداق بعد أن يحددوا الأمور على المستوى المفاهيمي فإنه يحتاج إلى واقع عملي يرسم لهم الصورة الواقعية لتطبيق هذه المفاهيم. نحن و لله الحمد نمتلك نماذج عمليّة واضحة في هذا المقام نمتلك هذا المصداق و هذا االنموذج و هذا المعيار الذي نرجع إليه في موارد الشك و الشبهة. هذا رسول الله 6 الذي لم يشبع من خبز شعير و لم يأكل خبز البر قط. هذا اللون من السلوك منه حجة علينا مهما كان لرسول الله من خصوصية و مهما كان له من قدرات خاصة إلا أنه بشر و هو الحجة على جميع الناس. أيضاً الروايات الصادرة منهم ( تشير إلى هذا اللون من السلوك عندما تحذّر الانسان من كثرة المأكل و المشرب فيقول رسول الله 6 : «... أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا»[4]و[5].

المسألة لا تعني أنك بمقدار ما تشبع هنا فإنك تجوع هناك و إنما لما للشبع في هذه الدنيا من أثر واقعي. إن جوعك في الآخرة ناتج عن شبعك و امتلائك في هذه الدنيا لما ينطوي عليه الشبع من ظلمات تطغى على نفس الانسان فيظلم قلبه و يقسو فيستعلي على الآخرين لقسوة قلبه و هذا ما نلمسه في واقع حياة الناس. إن الانسان ليتألم مما نراه في هذه الظروف و الأيام من صور جشعة بشعة في التعاطي مع الناس و المؤمنين و من طلاب الحق، لا يريدون إلا حقوقهم إلا أنه يُتعامل معهم بهذا اللون من القسوة و العنف و السلطنة و البطش؛ في سبيل ماذا؟ في سبيل أي شيء؟

إلا أنه بطبيعة الحال عندما يعيش الانسان و يتربى في بيئة من المُتعة و الشهوة و انبساط الأمور فإنه يقسو قلبه، هم لو تُركوا و تربية الطبيعة و خلق الله جل و علا لكانت الفطرة تقتضي منهم الإنصاف و المشاعر و لكن هذا ما يثير الخوف في أنفسنا و القلق في أنفسنا على أنفسنا أنه إلى أي مدى يمكن أن نصل في يوم من الأيام و إلى مدى نبلغ نحن عندما نعيش حالة من الترف و الشهوة و استقامة أسباب الحياة؟، إنها تثير في أنفسنا هذه الحالة من الإستكبار و الاستعلاء و الإستخفاف بمشاعر الآخرين و أحاسيسهم. هنا لا يوجد علاج نافع إلا ما نصّ عليه القرآن الكريم: )فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرض تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ( لا يعالج هؤلاء إلا نار جهنم حيث تُكوى قلوبهم لتزول ما في أعماقهم من كبر و استعلاء.

نرجو من الله سبحانه و تعالى أن يحفظ لشيعة علي عليه السلام حقوقهم و أمنهم و سلامتهم و نختم الخطبة بقراءة الفاتحة للمؤمنين و الشهداء و الحمد لله رب العالمين.

 


[1] الأحقاف/20

[2] راجع: ابن عربي، أحكام القرآن، ج4، ص1698.

[3]  البحراني، هاشم، حلية الأبرار، ج1، ص220.

[4] بحار الأنوار، ج63،ص339.

[5] جاء في البحار ج63،ص337 نقلاً عن مصباح الشريعة: قال الصادق عليه السلام: قلة الاكل محمود في كل حال وعند كل قوم، لان فيه المصلحة للباطن والظاهر، والمحمود من الاكل أربعة: ضرورة، وعدة، وفتوح، وقوت: فالاكل بالضرورة للاصفياء، والعدة للقوام الاتقياء، والفتوح للمتوكلين، والقوت للمؤمنين، وليس شئ أضر لقلب المؤمن من كثرة الاكل، وهى مورثة شيئين: قسوة القلب وهيجان الشهوة، والجوع إدام للمؤمن وغذاء الروح، وطعام القلب، وصحة البدن.

كما  قال النبي: ماملا ابن آدم وعاء أشر من بطنه، وقال داود عليه السلام: ترك اللقمة مع الضرورة إليها أحب إلى من قيام عشرين ليلة.

صور اخري

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني