شعائر الله

17-08-2023

شعائر الله

قال عز من قائل في محكم كتابه الكريم: )وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوي بِهِ الرِّيحُ في‏ مَكانٍ سَحيقٍ (31) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب ([1] صدق الله العلي العظيم.

نعيش هذه الأيام مجموعة من الشعائر الدينية و المنائر الدينية التي تستحق مِنّا الوقوف عند كل واحدة منها و التأمل فيها و الاستفادة من معالمها و مضامينها و مداليلها إلا أنه حيث يضيق بنا المقام عن ذلك لا بأس بإعطاء صورة كلية عن طبيعة هذه المنارات و طبيعة هذه الشعائر و الوقائع و المنعطفات الأساسية في مبنانا الديني لإعطاء خريطة مجملة عن أثرها على المجتمع الإيماني، بدءً نشير إلى طبيعة لفظة الشعيرة و الشعائر.

 

معنى الشعيرة

لفظة الشعيرة في لغتنا الدّارجة تتوافق مع المعنى الموضوع له اللفظ في اللغة العربية و فيها إيحاء بجانبين:

الجانب الأول: هو الجانب العملي إذ أن الشعيرة هي الفعل و يراد به – عند الرجوع إلى أصل اللفظ- ما نحدثه في الدابة إشعاراً أو دلالة على أن هذه الدابة هي شعيرة من الشعائر و أنها هديٌ، لذلك يقول المفسرون أن الشعيرة واحدة المشاعر و مشاعر الحج معالمُه الظاهرة للحواس، إذ أن للانسان آلتي حواس ، هناك حواس ظاهرة كاللمس و الشّم و الذَّوق و النَّظر و السَّمع و هناك حاسَّة القلب، فعندما يعبِّرون عن حواس القلب يقولون (تعقلون) و عندما يعبِّرون عن حواس اللَّمس يقولون (تشعرون)، فالشعور هو الذي يُحسّ بآثاره و دلالاته الظاهرية.

الجانب الثاني: أن لفظة الشعيرة فيها لون من ألوان المباشرة للذّات، فيقال عن اللباس بأنه من الشعار و ذلك لأنه يُلامس شعر الانسان و ذلك في مقابل الدثار و هو ما يُوضَع على الشعار ، فإذن الشعار هو ما يمُسُّ بدنك و يباشر روحك، إنه ما يباشرك أنت بخلاف الدثار الذي يكون غطاء بعد ذلك اللباس.

نماذج من شعائر الله

نحن في هذه الأيام قد تركنا خلفنا شعيرة من أضخم الشعائر الدينية ألا وهي شعيرة الحج بما تنطوي عليه من معاني و دلالات و إيحاءات و إرشادات ، كما أننا نعيش في هذه الأيام أيام الولاية و غدير خم ، و نستقبل في أيامنا القادمة بداية السنة الهجرية الجديدة ومطلع شعيرة من شعائرنا المذهبية ألا و هي النهضة الحسينية المباركة.

1/ الحج

عندما ننتقل إلى هذه الشعائر الثلاث التي أشرنا إليها نلاحظ أن الشعيرة الأولى هي الحج و هنا لا يفوتنا أن نبارك لكل الحجاج و الزوار و نتحمد لهم السلامة و إن شاء الله يكون جهدهم في سبيل الله و أن لا يكونوا ممن شارك في الضجيج و فاتهم الحجيج و إنما نتمنى من الله جل و علا أن يكونوا من أهل الحج، فهذه المظاهر البشرية التي يقوم بها المسلمون في كل عام من أعوامهم في زمن محدد و في مكان محدد، إنه مسلك و منهج يتخذه المسلمون لإبراز هذا اللون من ألوان التوحيد و الانقياد و الطاعة و من ألوان الإتباع للأوامر الإلهية التي سنَّها أئمة الدين و أئمة المذهب من إبراهيم % إلى نبينا محمد 6 و مما لا شك فيه أن لهذه الظاهرة و هذا الاجتماع البشري الإستثنائي و الفريد إيحاءاته و مضامينه و مدلولاته ، لا يسعنا الوقوف أمام كل دلالاته، و لكن من يفتقر إلى هذا اللون من السلوك هو أكثر من يُدرك قيمة التوحيد و الانقياد، انظروا إلى الأمم الأخرى كالأمم الأوربية اليوم ، إنها تقدّر فيكم و تشعر أنه كم ينطوي هؤلاء على لون من ألوان التعبد و لون من ألوان الشعيرة و الانقياد إلى الله جل و علا مما يشعرهم بحالة من الحسد و القبطة لكم.

2/ عيد الغدير

نعيش هذه الأيام عيدنا الخاص بالطائفة ، عيد الغدير ، عيد الولاية و الارتباط بأئمة الدين (. قد لا ندرك مدى أثر هذا العيد على أنفسنا و مدى نتاجه على فكرنا أيضاً إلا إذا نظرنا إلى ما يعيشه غيرنا من حالة من التّيه و الإرباك و القلق في بُعد أساسي من أبعاد الدين. لقد نظرتُ في بعض الكتب الفقهية و الثقافية لبعض المذاهب الأخرى فإذا بهم يتخبطون بحثاً عن منهج ديني يُطمأَن إليه في كيفية سلوك المؤمنين بل إن بعضهم كان يقول إن الدين الإسلامي يفتقر إلى الجهة السياسية و الجهة الإجتماعية ، أي أنه لا يوجد عندنا طرح إسلامي!. و من تبنى –منهم- نوع من أنواع الطرح فإنما يتبنى لون من الأطروحات التي تضحك الثكلى حيث ينتهي بعضهم في كتبهم الفقهية إلى شرعية القوة و الغلبة. كما يصرّحون بذلك في أحكامهم السلطانيّة في أن السبيل إلى شرعية الحكم هو الغلبة و القتل و الظلم!!، بل يرى بعضهم بأن أي لون من ألوان الغلبة فإنه ينتج شرعية الحكم. ثم ينسبون هذا اللون من التفكير و هذه النهايات إلى الشريعة الإسلامية الحقّة النقية الصافية. إنه من المؤسف أن يكون السبب في ما انتهوا إليه هو فقدهم ليوم الغدير.

3/ النهضة الحسينيّة

أما ما نُقبل عليه ألا و هو السنة الهجرية المقبِلة و النهضة الحسينيّة. نحن نتخذ هذه النهضة -بل إن هذه النهضة في الحقيقة تعتبر- منهجاً سلوكياً و منعطفاً أساسياً في فهمنا للدِّين. كل من يعيش هذه النهضة و كل من يدرك مداليلها، فإنه يعيش حالة من الوضوح في الرؤى و الاستقرار في الفكر و حالة من تمامية الدين و من هنا نقول أن هذا اليوم و هذه النهضة و هذا الحج هو إتمام للدين لأن mتمام الدين بالولايةn[2]، الدين هو عبارة عن مجاميع من القوانين و الدساتير و لكن تمامية هذه الدساتير و التقنين و تمامية تلك النُّظُم إنما تكون من خلال الراعي و المدرِك و المدبِّر لها و هم أئمتنا أهل البيت ( ، إنّنا نمتلك رؤية واضحة في كيفية تطبيق هذه القوانين من خلال الإرشادات و التوجيهات التي وردتنا عن أهل البيت ( ، كما نمتلك مصداقاً و نموذجاً متكاملاً لهذا التتميم و هذا الإتمام و هذا الكمال في حال يعيش الآخرون تيهاً في تطبيق هذه القوانين و في فهم كليّتها من جهة و يعيشون أيضاً تيهاً و ضلالاً في جهة المصداق الذي يحقق هذا التتميم.

إنّ مجموع هذه الأحداث تأخذ منا و من أحاسيسنا و من أفكارنا الكثير ، و لكننا في أمس الحاجة أن نخرج من مجموع هذه الشعائر و التفاعلات و الإنفعالات و السلوكيات التي ننهجها في عامنا هذا و في كل عام -مما انقضى من أعوامنا و مما يأتي-  نحتاج أن نخرج بتصور واضح و جلي لدلالة هذه الشعائر و طبيعتها كما علينا أن ندرك إلى أين تريد أن تدفعنا هذه الشعائر.

آثار الشعائر الإلهيّة

هناك مجموعة آثار على سلوكنا العامّ لمجموع هذه الشعائر و العناصر التي ذكرناها، و هي: الحج و الولاية و النهضة الحسينية. ثقوا أننا قد لا ندرك كل مداليلها و كل إيحاءاتها إلا أنه باستطاعتنا إدراك بعض مداليل و آثار هذه الإجتماعات العامة و الشعائر التي نلتزم بها.

من أهم الآثار التي تُحدِثها هذه الشعائر:

1/ إحياء الفكر الإسلامي في واقع الانسان

الأثر الأول: إحياء هذه الشعائر في واقعنا إذ أن الشعار هو رمز للفكرة بمعنى أن كثير من الأمم تتبنى آراء و لكن هذه الآراء، تبقى مجرّد آراء  حبيسة الذهن و حبيسة التصور ما لم تأخذ منحىً عملياً و منهجاً سلوكياً يفعّلها. من هنا نجد أن الدين أعطى آلية و منهجية عملية لتحويل الفكرة و العقيدة و التصورات إلى واقع و منهج و سلوك من خلال هذه الشعائر و المنائر.

2/ المحافظة على الدّين و التديُّن على مستوى السلوك الانساني

الأثر الثاني: حفظ سقف الدين و التدين، إذ أنه في نفس الوقت الذي يجعل من هذه الأفكار واقعاً عمليّاً فإنه يحدث بذلك مُكنة و واقعاً فعليّاً يصعب كسره و تجاوزه و من هنا يحفظ للناس دينهم، و يحفظ لهم الحد الأدنى و الممكن من واقع سلوكياتهم، فتتحول هذه الأفكار إلى مناهج واقعية و سلوكية ذات اندفاعات سلوكية خارجية.

3/ زرع الفكر الإسلامي في أعماق الجيل الجديد

الأثر الثالث: المُساهمة في بناء  الجيل الجديد و تثقيفه و زرع الأفكار الإيمانية في أعماقه. إن الأمم تحاول أن تورث أفكارها إلى جيلها الجديد و لكن عندما تهاجَم هذه الأمم و تصبح هناك محاولات لإخلال الجيل الجديد، إن الأفكار المحاربة ستجد منفذاً لهذا الجيل الجديد ما لم تمتلك الأمة –أي أمة كانت، مسلمة أو بوذية أو هندوسية أو مسيحية- منهجاً فعلياً يُحوِّل أفكارها إلى سلوك يعيشه جيلها الجديد. لاحظوا نحن كم من السهل علينا و بمجرد أن نجلب الأطفال و الشبيبة و اليانعين إلى المساجد و الحسينيات فإننا نخلق بذلك توجهاً و سلوكاً في أعماقهم و أنفسهم، نزرع في أعماقهم هذه المبادئ و القِيَم و الأفكار.

من هنا فإننا مع ما نعانيه نحن من حصار و مهاجمة و من محاولات طويلة لإرباك واقعنا الفكري و العقائدي إلا أننا نعيش حالة من الحصانة و حالة من الأمان في كثير من الأحيان. أنا لا أريد أن أشعركم بحالة من الإطمئنان و الخمول في الدفاع عن العقيدة و الفكر و إنما أقول أن طبيعة المذهب و من خلال زرعه لهذه الشعائر و من خلال هذه السلوكيات أوجد طريقة و منهجاً و أسلوباً لإيصال أفكارنا من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة.

4/ إيجاد حصانة اجتماعية و تكاتف اجتماعي

الأثر الرابع: الذي تعكسه هذه الشعائر في نفوس الناس و في أعماقهم هذا اللون من التكاتف الإجتماعي و الصبغة الإجتماعية. و إن كان الهمّ الأخير للدين يتمثل في بناء الفرد و روحيته و لكن ذلك لا يكون إلا من خلال بناء المجتمع الصالح و من خلال تماسك المجتمع المؤمن و من خلال إيجاد حصانة لمجموع المجتمع ، حين ذاك تزرع فيه النماذج الصالحة و المباني الصالحة و الأفراد السوية. نلاحظ في هذه الشعائر البعد الإجتماعي فيها واضح و بيّن، إنها ليست سلوكاً فردياً و ليست نوع من أنواع العبادات الفردية؛ إنها ليست كصلاة الليل أو الدعاء و الإنقطاع إلى الله جل و علا. إنها نوع من أنواع المسلك الإجتماعي العام الذي يحدث تآلفاً و تماسكاً و هذا ما –لعله أنا أكرر هذا المعنى- و كما يقولون إنما يعرف الشيء فاقده، لاحظوا أخواننا من المذاهب الأخرى يدركون هذا المعنى و يشعرون به لعله أشد مما نشعر به ، يقولون أنتم عندكم مستوى رفيع من التنظيم و التكاتف و التكامل و التآلف الإجتماعي، هذا ليس من جهدنا بل إنه مما أمده إيانا أئمة أهل البيت ( من خلال هذه الشعائر و المناهج السلوكية.

5/ بناء الثقافة الواعية و التصور المتكامل للدين

الأثر الخامس: بناء الثقافة الواعية، و التصور المتكامل. نعم هي مناهج عملية و أساليب سلوكية و لكنها منطلقة من وعي و فكر و ثقافة و من تكامل ديني، و كل هذا يعطيها الحيوية و المنطقية التي تقاوم بها المناهج السلوكية الأخرى. مهما واجهتنا من صعوبات ، مهما واجهتنا من عقبات فإننا نتبنى هذه المناهج السلوكية و بكل جرأة و وضوح وشفافية و صفاء. لا نستحي منها لأنها مناهج تتوافق مع الفطرة و الفكر و الثقافة و المنطق، بل تتوافق مع مقتضى الحياة. هذا اللون من المناهج و المسالك و الشعائر حتى و إن لم ندرك بعض ملاكاتها، كما هو الحال من بعض سلوكياتنا في الحج، و لكن من حيث أنها في مضمونها مبنية على أسس منطقية واعية علمية فإن مجموع هذه الشعائر تُورِثنا ما ذكرناه من الخصائص التي يمتاز بها مجموعنا الإيماني إن شاء الله.

نرجو من الله سبحانه و تعالى أن يمنّ علينا و عليكم بالاستقامة على هذه المناهج و استثمار ما يُثار خلالها من مشاعر و تفعيل هذه الشعائر لكي نكون ممن يعظم شعائر الله فإن ذلك من تقوى القلوب و الحمد لله رب العالمين و صل اللهم على محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين.

 

[1]  الحج/30-32.

[2] راجع: الكافي، أصول الكافي، ج ، ص99، باب نادر في فضل الإمام و صفاته.

صور اخري

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني