الغفلة الاجتماعية

17-08-2023

الغفلة الاجتماعية

14/2/1431هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125)قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126)[1] صدق الله العظيم و صدق الرسول الكريم.

إن الموعظة إنما تنبت في أرض خصبة و الخصب ينمو في الأرض المفتوحة، و السلوك الحسن إنما ينمو عندما لا يكون هناك غفلة  وسهو و من هنا نجد أن الدين عالج الغفلة و السهو النسيان إذ أن هذه العناصر التي تملأ الأرض التي يراد الزراعة فيها بالجذب و الخصوبة و الصلاحية عناصر إزالة هذه الغفلة.

و من هنا نحتاج الى أن ننظر نظرة مجملة في خلفية هذا المرض الذي عالجه الدين و اعتنى به الصلحاء و ابتلى به المسلمون.

معنى الغفلة

الغفلة هي إعراض النفس و تركها عن الشيء و للشيء مع إدراكها له. و هي أُسّ النسيان و أُسّ السّهو و اللّهو.

لقد ذكرنا هذا المعنى في خطبة سابقة و قلنا هذه الألفاظ على تقاربها و تشابهها و تداخلها إلا أنها و بالدقة نجد أن بعضها يؤسِّس للبعض الآخر.

فالنفس عندما تعرِض عن الآخرة و عن ذكر الله و عن القيم و الأخلاق، بل الحالة أن الانسان يستحضر هذه المعاني و لكن نفسه تنازعه للانشغال بغيرها و بمجرد أن يلتفت إلى الغير تبدأ حالة الغفلة هو لم ينس الله بعد و  لم تذهب منه حالة إدراك الموت و الآخرة و لكنه غير مُقبل على هذه المعاني.

إذا ترك هذه المعاني غفلةً عنها فإنه يقبل على ما يقبل عليه من باب اللهو لأن اللهو هو الانشغال بالشيء عن الأهم ثم إذا أسهب في اللهو أصيب بحالة السهو عندها تصبح النفس  غافلة تماما عن الله و مقبلة على ما بيدها من اللهو ثم يستغرق في اللهو و السهو حتى تصل به الحالة الى حالة النسيان فتصبح النفس غير قادرة على الإحاطة بما يجب أن تحيط به.

مخاطر الغفلة

1/ الغفلة أغرّ الأعداء

و من هنا نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «اَلْغَفْلَةُ اَضَرُّ الاعْدَاء»[2] لأنها هي التي تنقله للهو و من هناك تزلق قدمه إلى حالة السهو  ثم يغوص في أعماق النسيان. فالنسيان و إن كان هو ذهاب الصورة عن النفس و لكن ليس هو كما يتبادر في أذهان البعض من أن النسيان رافع للقلم، فبعض الأحيان يكلف والدٌ ولده بشيء فيتعذر الولد بالنسيان، ليس مطلق النسيان رافعاً للقلم، نحن ندعو الله سبحانه و تعالى فنقول: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)[3]؛ لأن هذا النوع من النسيان يُحوج الى الاستغفار و ليس مطلق النسيان رافع للقلم وواضع للحُجَّة. أنت لا تستطيع أن تحتج على الله بأنك نسيت لأن هذا النسيان ناتج عن الغفلة و ما هو ناتج عن الاختيار  فهو اختياريٌ. نعم يقول الفقهاء: يستحيل توجيه التكليف حال النسيان لكن هذا لا يساوق و لا يوازي عدم التكليف و عدم المسؤولية بل أنت مسؤول عن سبب هذا النسيان الذي أحدثته في نفسك اختياراً لإغفالك عما هو واجب عليك. عندما تهمل هذا الواجب و تُقبِل على ما تُقبل عليه من باب اللهو ثم تصل الى السهو إلى أن تزل أقدامك في عالم النسيان.

2/ الغفلة تجر الانسان إلى المهاوي

بما أن الغفلة هي التي تجر الانسان الى هذه المهاوي لذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ وَ نُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ وَ تُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً وَ شُهُوداً غُيَّباً وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ؟!)[4] ...  لأن الغفلة تجتمع مع بعض أنواع السلوك العبادي، الغفلة عمل قلبي أي يصيب القلب و يستهدف أعماق المشاعر، و من هنا فإنه يجتمع مع بعض أنواع العبادات الشكلية الظاهرية فتجد هؤلاء الغفّل يصلُّون و يصومون و يحجّون و لكنهم في غفلة. تجدهم أشباحاً و لا أرواح و تجد نسك و عبادة و طاعات و لكن هذه لا تجره إلى صلاح و لا ترشده إلى سبل الفلاح و تجد هناك بيع و شراء على مستوى التعاطي مع الله جل و علا و لكن لا أرباح و لذا فإن هذا المرض عندما يصيب القلب يجره من الغفلة إلى ما هو أعمق و هو السهو و لذا ورد في الروايات: (سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَ الْغُرُورِ أَبْعَدُ إِفَاقَةً مِنْ سُكْرِ الْخُمُورِ)[5]؛ الخمر -أعاذنا الله و إياكم- يفترض أن يكون له أمد و مدة محدودة ثم يذهب أثره، إلا أنّ خمر الغفلة و سكرها يجر القلب من مستوى الغفلة إلى مستوى أعمق و أشد و هنا لا أمل في أن ينجو الانسان المصاب بهذه الحالة إلا أن تتداركه العناية الربّانية.

أهم أسباب الغفلة

هناك أسباب كثيرة للوقوع في الغفلة، من أشدها:

1/ الاسترسال في اللَّذة

و هذا السبب خطير و عملي في حياتنا نظرا الى ما نعايشه نحن من ملابسات، يقول الامام زين العابدين عليه السلام: (يا ابن آدم أن قسوة البطنة، وفترة الميلة، وسكر الشبع، وغرة الملك مما يثبط ويبطئ عن العمل وينسي الذكر، ويلهي عن اقتراب الأجل)[6]. إن المتعة و الحياة السهلة و الاسترسال مع اللذة و التمتع بالحياة يُفقد الانسان الإحساس بالآخرة و القيمة و الاعتناء بالعزة و الالتفات الى المهم من هذه المعاني (ولا تجتمع عزيمة ووليمة)[7] لأن الانسان كلما ملأ بطنه كلما ضعفت همته، و كلما أصبح أكثر خورا و أضعف قوى.

2/ عدم الانتفاع بالمواعظ

يقول الامام علي عليه السلام: (مَن لَم يَنفَعْهُ اللّه ُ بِالبَلاءِ و التَّجارِبِ لَم يَنتَفِعْ بشَيءٍ مِن العِظَةِ)[8]. العناية الإلهيَّة هي المنجى و المؤمّل من الغفلة. هنا لا نريد أن نحيل على أن يكون المنجى من الله بل يجب أن نتوكل على الله و على أن نعمل أن نتخلص من هذا الواقع.

الغفلة عن استهداف الطائفة

من هنا أريد أن أفتح نافذة على ماذا يعني أن نعيش حالة الغفلة؟ لعل البعض يتصور أننا عندما نقول: الانسان غافل، فإنه يربط بين هذا المعنى و معنى الارتباط بالله جل و علا و الاعتناء بالآخرة، و لكن في الحقيقة أن الغفلة مرض يصيب الانسان ليكون عائقاً له. إننا كطائفة نعيش في هذه البيئة، كنا ولا نزال و بحمد الله ننطوي على قيم و مبادئ و مفاهيم ورثناها من آبائنا عن أجدادنا تمتد الى توجيهات معصومة من أهل الغيب و أهل العصمة و الطهارة و طوال هذا التاريخ الذي جاهد فيه صلحاءنا و علماءنا للحفاظ على القيم و المفاهيم و العقائد الحقَّة و العلوم الجليلة. كنا نتعرض -و بطبيعة أي تجمع بشري- إلى أعداء في العقيدة و أعداء في الدنيا و الدين. و لكن لا أظننا نعيش حالة من الاستهداف و الاستئصال كما نعيشه في هذه المرحلة الزمنية الخطيرة.

إذا كان أباءنا -جزاهم الله خيراً- قد احتفظوا بمقدار من القيم و الآداب و العقائد و قد أوصلوها إلينا بحركتهم العفويّة و سلوكهم و معالجتهم لواقع سلوكهم المتوافق مع أسباب الحياة في ذلك اليوم، فإنه من الواضح أن الغفلة عما يراد بنا اليوم سيجعلنا نفقد القدرة على الحفاظ على هذه المعاني و المفاهيم و القيم. فلا يكفي أن نتمسك بهذه المعاني و أن نوصي بها أبناءنا و جيلنا القادم لكي نتمكن من إيصالها بأمانة، بل المسألة تحتاج إلى أن نعي كيف نعالج ما نعيشه اليوم. اليوم نحن تحت المجهر، فلا تتصوروا أن استهداف قيمنا و علمائنا و المفاهيم التي نتبناها إنما صدر من باب العداء المتوارث المخلوف و إنما القضية وراءها ما وراءها. نحن نحتاج اليوم إلى أن نخرج من حالة الغفلة و السير مع التيار كيفما اتفق، نحتاج إلى أن نعيش واقعنا بوعي و حساسية شديدة، نتأمل في طبيعة ما نعيشه اليوم و الظروف التي نعيشها. نحتاج الى جدية و احساس و اقعي بطبيعة ظروفنا و طبيعة هذه المعادلة التي نعيشها.

منذ ثلاثة عقود تقريباً أصبح عنوان الشيعة و التشيع -من خلال هذه الأحداث المتتالية- يمثّل خطراً على الدول والقوى التي تريد و تستهدف المنطقة. و هم يدركون بوضوح أن أحسن طرق معالجة المشكلة هي بتحليل هذه التركيبة و دراسة هذا التكتل البشري الذي ينطوي على أسباب قوّة عقائدية و أسباب تماسك اجتماعي و وعي فكري، يراد منا أن نذوب في ضمن معادلة جديدة.

سبل الخروج من غفلة اليوم

1/ دراسة الواقع

إنني لا أطرح برنامجاً معيّناً أو حلاًّ، هذا دور المؤمنين ليتشاوروا و يتعاونوا و يدرسوا واقعهم، لكن كل ما أريد أن أقوله أننا بحاجة إلى أن نخرج من حالة الاسترسال و الغفلة و الميوعة في معالجة أمورنا الاجتماعية و الدينية و الأخلاقية.

2/ الجديّة في إعادة بناء المجتمع من الداخل

ربما يكفينا لندرك الاستهداف أن نتأمل كيف تسير حركتنا الأخلاقية في هذه العشرة سنوات الأخيرة. هل كنتم تسمعون بجرائم كما نسمع بها هذه الأيام؟! قد يقال أن هناك ظروف موضوعية تقتضي ذلك ، نعم و لكن لا شك أيضا أن هناك استهداف و هناك قوى تدفع الأمور في هذا الاتجاه لتساهم و تتكامل القوى الداخلية بالقوى الخارجية. يجب أن نعالج أمورنا من الداخل كما ندرس أمورنا في الداخل و الخارج، و هذا يحوجنا إلى أن نبني بيتنا الدّاخلي بناءً واعياً متكاملاً حيّاً.

3/ التضحية في سبيل الحفاظ على قيم المذهب و مبادئه

نحن اليوم نعيش مرحلة زمنية و ظرف استثنائي يحوجنا للخروج من حالة الغفلة في أمور ديننا و أمورنا الاجتماعية و تركيبتنا الأخلاقية و نحن في الحقيقة طائفة نمتاز  بكثير من الخصائص. نحن و بحمد الله و في أحلك الظروف استطعنا أن نتجاوز قوى كانت مهيمنة و هذا يحمد للمؤمنين و يشكر لهم و لكن هذا يُلقي بثقل المؤونة على كاهل الموجودين اليوم، كما استطاع آباءنا و علماءنا أن يضحوا و يقدموا، أن يقدم العلماء علومهم و المجاهدون جهادهم و دماءهم، التضحية و الجهد الكبير في سبيل الحفاظ على هذه المعاني لنتمكن اليوم للوصول اليها في أيسر السبل. إننا مكلفون اليوم بتطبيق هذه القيم و المعاني و تجسيدها في حياتنا و إيصالها بأمانة و وضوح الى أجيالنا اللاحقة. يجب أن لا تتشوه هذه المعاني، يجب أن لا تُثار الشكوك في ولائنا لأهل البيت عليهم السلام، يجب أن لا تُثار الشكوك في مقاماتهم ، يجب أن لا نقبل بتسرب التشكيكات و الظنون العقائدية و الفكرية و الأخلاقية. و كل هذه الأمور تحوج منا الخروج عن حالة الغفلة و كسر النمطية في السلوك العفوي و الاسترسالي، لم تعد الحياة تستوعب مثل هكذا سلوكيات فإن الذين لا يخططون لمستقبلهم و لا يعملون بوضوح و من خلال رؤى واعية إلى مستقبلهم فإنهم لم يكونوا إلا خطوة من خطوات تخطيط الآخرين، سوف يصبحون جزءً من مخطط الآخرين، نرجو الله أن يوفقنا و إياكم و ينقذنا و إياكم من مقاصد الأعداء و الحمد لله رب العالمين.

 


[1] طه: 124-126.

[2] غرر الحكم، ج1، ص35.

[3] البقرة:286.

[4] نهج البلاغة، خطبة 108.

[5] غرر الحكم، ج1، ص266.

[6] بحار الأنوار، ج75، ص129.

[7] رواها الإمام علي عليه السلام، وردت في ميزان الحكمة، ج3، ص1968.

[8] ميزان الحكمة، ج4، ص3600.

صور اخري

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني