في رحل الحسين 4: صون السلوك

25-07-2023

صون السلوك

9/1/1431هـ

ذكرنا أنّ صون السر هي نوع رجوع إلى الله في حركة النزول و حركة الصعود و في قوس النزول و الصعود.

و قلنا أن للانسان في الحقيقة مراتب تنزلية تبعا للمراتب التنزلية في هذا الوجود إذ أن الباري جل و علا عندما خلق هذا الكون خلقه دفعة و لكن طبيعة هذا الكون تدريجية و طبيعة هذا الوجود تنزلية، فهو في حالة تنزل. و في عين الوقت فإن الروح البشرية في حالة رجوع و تصعد الى الله جل و علا و تكلمنا بما يسع المقام عن هذين القوسين؛ قوس النزول من جهة و قوس التوحيد و الترقي في مراتب التوحيد من جهة ثانية.  في هذه المحاضرة نشير باختصار إلى معالم هذه الحركة السلوكية في كلا القوسين.

مبادئ صون السلوك

1/ جمع الهمّة

يعبر الإمام % عن هذه الحركة -حركة النزول و الصعود- في دعائه يوم عرفة بتعابير كثيرة و بأحوال متنوعة فتارة يقول: (فَاجْمَعْنى عَلَيْكَ بِخِدْمَة تُوصِلُنى اِلَيْك)؛ إن اجتماع الهمة و المشاعر و الأحاسيس هي مرتبة من المراتب العليا في السلوك الى الله جل و علا، ورد في الروايات: عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: مَنْ أَصْبَحَ وَ اَلدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَتَّتَ اَللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَ كَانَ فَقْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَ لَمْ يَأْتِهِ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ وَ مَنْ كَانَتِ اَلْآخِرَةُ أَكْبَرَ هَمِّهِ كَشَفَ اَللَّهُ عَنْهُ ضِيقَهُ وَ جَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ وَ أَتَتْهُ اَلدُّنْيَا وَ هِيَ رَاغِمَةٌ[1]؛ تجد الانسان الذي يتعلق بالدنيا تتكثر عليه الهموم و تتشتت اهتماماته و مشاعره، فبينما هو يتألم لقضية ما إذ شغلته أخرى و بينما قلبه متعلق بمسألة إذ انفتقت عليه ثانية و هو بين هذه المسألة و تلك في تشتت من أمره و توزع من شأنه.

2/ التوكل على الله

الرجوع الى الله حركة وجدانية إرادية تحتاج من الانسان جمع همّ، الامام الحسين % يستسلم للمشئية الإلهية و يفتقر الى الله تمام الافتقار إذ هو يُقِر في مناجاته: إذا كنتُ أي رب (أَنَا الْفَقِيرُ فِي غِنَايَ فَكَيْفَ لَا أَكُونُ فَقِيراً فِي فَقْرِي إِلَهِي أَنَا الْجَاهِلُ فِي عِلْمِي فَكَيْفَ لَا أَكُونُ جَهُولًا فِي جَهْلِي)[2] فهو % لا يدّعي لنفسه شيء هو يدعو الله جل و علا في أن يجمعه إليه، يرجعه إليه، يقول الإمام % في نص آخر: (متى بعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك)؟!؛ بل أنك جل و علا أنت الذي تُرجِع هذه الأرواح إليك، عندما تُقبل الأرواح إليك و تتجاوز موقعية الآثار فإنها تُقبل عليك نورية، و في نص آخر يقول %: (فارجعني إليك بكسوة الأنوار)؛ الإمام % يؤكد على أنه أنت أي رب اجمعني و ارجعني، أنا لا يكون مني شيء بل كل التعويل و الاعتماد و التوكل إنما هو عليك أي ربّ، يقول %: (اسلك بي مسالك أهل الجذب)؛ العلماء يقولون السائرون الى الله صنفان سالك و مجذوب، أي أن الله يطلبه و يقولون طالب و مطلوب و بطبيعة الحال هذا السلوك و العود الى الله يقع في ضمن عدة أسفار كما يعبّر صاحب الأسفار الملا صدرا و هو من كبار فلاسفة العصور المتأخرة حيث يقول أن هناك أكثر من حركة للانسان، فهناك حركة من هذا العالم الى الله جل و علا و يسميها سفر من الخلق الى الحق، الانطلاق من هذا العالم و الوجود المادي و المخلوقات الى الله جل و علا ثم يعقبه سفر آخر و هو من الحق في الحق أي أنه يعيش الهم الإلهي و الوجود الربّاني، و هناك أيضاً سفر ثالث ثم يعقبه سفر أخير و هو من الحق في الحق الى الخلق أي يعود الانسان الى الناس و لكن بعد أن يتشبع بقواعد الوجود العُلوي، بعد أن يعيش مع ذلك العالم، هذه الحركات و الانتقالات يختصرها لنا الإمام %.

ما نذكره هنا ليست مسائل فلسفية و أفكار تجريدية إنما هذا هو الإمام الحسين % و هو يعيش الواقع الميداني في عرفة، يتوجه الى الله جل و علا بهذا الدعاء الذي قرأناه بالأمس و لكن لا بأس بأن نتأمل في بعض المطالب التي يحتويها يقول %: (إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار)؛ كلما أطلت المكث في حالة التأمل في الموجودات كلما بعد المزار، و هو لا يتكلم عن هذه الوجودات بما هي هي بل يتكلم عنها بما هي آيات و دلائل و هذا في حد ذاته مقام من المقامات. إن نفس النظر إلى هذه الآثار من جهة أنها آثار هو لون من ألوان التوحيد و التوسل الى الله جل و علا بها و لكن الإمام % يلجأ الى الله أن يبقى في هذا المقام و كما يقال أن حسنات الأبرار سيئات المقربين الإمام يستغفر الله من هذه الحالة و من هذه الأحوال، فيدعو الله جل و علا أن ينقله من حالة التعامل مع الآثار لأنها توجب للإمام % نحو ألم و مشقة؛ لأنه تردد في الآثار مما يوجب بعد الارتباط و المزار و القرب من الله جل و علا (فاجمعني إليك بخدمة توصلني إليك)؛ وفقني الى أن أعمل الأعمال التي تكون في خدمتك و في سبيلك لكي أصل إليك ثم يقول %: (كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ... متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك؟!)؛ إذن على مستوى الوجود أنت حاضر و لست بغائب بل هذه الموجودات هي الغائبة؛ لأن وجودها متقوم بوجوده في حقيقة وجودها فضلا عن بدو ظهورها، فهي في أصل وجودها متقوِّمة بوجود الله جل و علا، على سبيل المثال:  كيف بنا أن ندرك الحرارة و لاندرك النار التي تخلقها و توجدها؟ إنه من العمى و من ضعف البصر أن يعيش الانسان مع هذه الحرارة و هو لا يدرك النار التي تُصدرها.  

متى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك، ففي الوجود يعبّر بعبارة: (متى غبت) و في الإدراك بعبارة: (متى بعُدت)، حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ثم يقول %: (إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار فارجعني إليك بكسوة الأنوار و هداية الاستبصار حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها)، هنا أيضا يرجع الإمام الحسين % إلى الحديث عن الحركة الى الله و الانتقال الى الله من هذه الآثار على أنه لم يتوجه الى هذه الآثار إلا من حيث أن الله أمره بذلك، و كما يقول %: (كيف أعزم و أنت القاهر و كيف لا أعزم و أنت الآمر؟)؛ حتى العزيمة و الهمة و الاقبال و التوجه إنه من باب الاستسلام للأمر الإلهي لا من باب الوجود الذاتي! الإمام % قد تجرد في أعماقه من ذاته الى هذا الحد و أصبح معوّلا على الله جل و علا و حتى في إقباله على هذه الآثار بعد أن أحالنا الله إليها إنما يتوجه إليها الإمام الحسين % دخولا إلى الله جل و علا يقول: (حتى ارجع إليك منها)؛ من هذه الآثار (كما دخلت إليك منها)؛ إنما أجعلها سبيلا و مدخلا للبلوغ إليك.

معنى السلوك                                                           

إن السلوك كما نفهمه هو انتقال من نقطة الى نقطة نهدف عندما نكون في النقطة الأولى أن نبلغ النقطة الثانية و هذا ما تسمى الحركة و الانتقال من نقطة الى أخرى و الحركة في الحقيقة ليست هي هذه الحركة الميكانيكية الانتقال من نقطة الى أخرى، نعم في هذه الحركة الخارجية هي حركة ميكانيكية بمعنى أن البدن يتجافى من موضع و ينتقل الى موضع آخر، لكن حقيقة الحركة الروحية هي تفعيل ما في أعماق الانسان بل ما في أعماق كل موجود بحيث تتحول القدرة و المكنة الكامنة في أعماقه و المطوية الى واقع خارجي، و يمثلون لها لتوضيح حقيقة الحركة و السلوك بالبذرة فهي أشبه ما تكون بجسم ميت و جماد لا يظهر عليه أي لون من ألوان الحياة ثم يوضع في بيئة ملائمة من الرطوبة و الغذاء و الهواء فإذا به يتحرك داخليا حركة ذاتية وإذا بهذا الجسم شبه الميت ينبثق عن حياة و ينمو و يكبر فإذا به نخلة باسقة مثمرة مطعمة ذات نكهة و رائحة و فائدة، هو هذه الحركة الجوهرية، و هو هذا الإنتقال من القوة الى الفعلية.

سلوك الحسين % في كربلاء

إن ما أحدثه الإمام الحسين % في يوم كربلاء هو نحوٌ من هذا القبيل حركة جوهرية ذاتية ديناميكية، لا أنه جسم يحرك جسما آخر يخضع في منطقه إلى قوانين الفيزياء بل هو حركة في الأعماق و خصوصية هذه الحركة أنها ليست خاضعة لعنصر الزمان و لا المكان، القرآن عندما يقول: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[3]  ثم يقول عنها أنها (خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ) إن الحركة الروحية شبيهة بحركة الخيال أنت هنا الآن تستطيع أن تذهب إلى أقصى نقطة في العالم بخيالك، تبلغها في آنات و في أقل من الآنات!، الحركة الروحية من هذا النحو فهي حركة استثنائية! و لذلك يكون لها انعكاس واقعي على الوجود و لكن تحتاج الى مادة شعورية وقّادة و عاطفة و مشاعر جياشة. لعلنا لا نفهم هذا المعنى إلا من خلال بعض الوقائع الخارجية، ففي حادثة يرويها لنا الإمام زين العابدين % عما جرى على والده في الليلة التي قتل فيها الإمام % يقول الإمام زين العابدين %: كنت جالسا في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها و عندي عمتي زينب تمرّضني؛ لأن الإمام كان مريضا، يقول إذ اعتزل أبي في خباء له؛ أي أنه تفرد و اعتزل في جانب و كان عنده جون مولى أبي ذر الغفاري و هو يعالج سيفه و يصلحه -لاحظوا ماذا يجول في أعماق الإمام الحسين في تلك الليلة و هذا ينقله لنا الإمام زين العابدين % الذي هو معصوم و هو الذي يستطيع أن يسجل دقائق الأحاسيس و المشاعر و يبرزها، و لعل كثير ممن يرى الأحداث يدرك بعض ظواهرها و يحيط ببعض شؤونها و لكن عندما يتحدث الإمام زين العابدين % فإنما يتحدث عن أعماق هذه الأحاديث و هذه المشاعر- و يقول %:

يا دَهرُ أُفٍّ لَكَ مِن خَليلِ

كَم لَكَ في الإِشراقِ وَالأَصيلِ

مِن صاحِبٍ وَماجِدٍ قَتيلِ

وَالدَهرُ لا يَقنَعُ بِالبَديلِ

وَالأَمرُ في ذاكَ إِلى الجَليلِ

وَكُلُّ حَيٍّ سالِكُ السَبيلِ[4].

إن الإمام يتأوه و يتوجع و يتألم، إنه لا يتألم لبعض شؤونه الخاصة، بل يتألم لواقع ما يدركه الإمام % مما سترسمه الانسانية في بعض مواقعها و بعض أفرادها من تدنٍّ بشري استثنائي لاتبلغه البشرية إلا بقتل ابن بنت نبيها - و هذا ما يدعو إلى الألم، لاحظوا تتمة الحديث عندما أدرك الإمام % أن البشرية مقبِلة على هذا الذنب و الجرم الذي أبكى كل الأنبياء و الصالحين وأوجعهم وذلك ليس فقط من حيث الإمام الحسين % و إنما بسبب أنها كاشفة عن أن الانسانية فيها القابلية على أن تتدنى و أن تبلغ في دنوّها الى هذه المبالغ؛ يقول الإمام زين العابدين %: و كان أبي يردد هذه الأشعار و هذه الأبيات فأعادها مرتين أو ثلاث حتى فهمتها؛ أي فهمت المقاصد و المعاني و علمت ما أراد الإمام الحسين % يرنو و يشير الى معان بعيدة عندما علم بها زين العابدين %يقول: (فلم أن أتمالك أن خنقتني العَبرة)؛ و لكن زينب & موجودة الإمام زين العابدين % خنقته العبرة و أحاطت بمشاعره و أحاسيسه و لكنه حال دون خروجها هيبة لزينب و رعايةً لأحاسيسها و مشاعرها، فيقول: (فرددتها و لزمت السكوت)؛ العبرة بلغت مني كل مأخذ و لكنني لم أبكِ، (و علمت أن البلاء قد نزل و أن البلاء قد أحاط و لا مفر)؛ و لكن عمتي زينب & و هي تعلم مقام الإمام الحسين % و تعرف مرتبته و تدرك إلى ماذا يقصد الإمام بهذه الأبيات فما تمالكت لما سمعت و هي امرأة و من شأن النساء الرقة و الجزع (فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها و هي حاسرة حتى انتهت إليه)، انتهت الى الخباء الذي فيه الإمام %، فقالت: (واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة و أبي علي و أخي الحسن ياخليفة الماضين)، هذه زينب & تحدث أخاها الإمام الحسين %، (ياخليفة الماضين و ثمال الباقين فنظر لها الإمام الحسين و قال لها يا أخيه لا يذهبن بحلمك الشيطان)؛ إن هذه الأحاسيس والمشاعر و هذه الآلام التي يعيشها أهل البيت في ليلة العاشر من المحرم، إنها هي وقود الحركة و هي وقود السبيل لله جل و علا و هي مادة الانطلاق الى الله عز و جل، إن هذه الأحاسيس و المشاعر هي التي رفعتهم و أخذتهم إلى تلك المقامات العالية، قال الإمام الحسين % لأخته زينب & عندما قالت: (واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت أمي فاطمة و أبي علي و أخي الحسن قال لها يا أخيه لا يذهبنّ بحلمك الشيطان و ترقرقت عيناه بالدموع)؛ أيضا الإمام بلغ به الحال أن ترقرقت عيناه بالدموع و أخذته العبرة، و قال %: (لو ترك الغطا لغفى و نام)؛ أي أنني لا أجد سبيلاً من المضي في هذا الاتجاه فلابد من سلوكه، لو كان هناك مجال و لو أن حالي كحال الغطا و هو نوع من الطيور أنه لو ترك و شأنه لغفا و نام و أخلد الى الراحة لكني لم أُترك، أثيرت عليّ الفتن من كل جهة فما وجدت بُدّاً من أن أنتخب هذا الطريق، هذا المعنى كان أشد وقعاً و أشد أثراً على نفس زينب سلام الله عليها إذ أنه عندما ترقرقت عينا الإمام الحسين % بالدموع و قال لو ترك القفا لغطا و نام قالت زينب &: (ياويلتاه أتغتصب نفسك اغتصابا أو تنتزع نفسك يا أخي من بين بدنك انتزاعا و اغتصابا فذلك اقرح لقلبي و أشد على نفسي ثم لطمت وجهها و هوت الى جيبها و شقته و خرت مغشيا عليها. فصب عليها الإمام الماء قال: يا أختاه اتق الله و تعزي بعزاء الله و اعلمي أن أهل الأرض يموتون و أهل السماء لايبقون و أن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته)؛ إن هذه الأحاسيس و المشاعر و الآلام و المشاق التي يطويها الإمام % كانت هي السبيل و هي الطريق الى أن يشق مقاما خاصا يصل به الى مستويات عالية من الكمالات البشرية.

خصوصيات سلوك الحسين %

1/ تداخل الجهاد الأكبر مع الجهاد الأصغر في سلوك الحسين %

إن الإمام % في هذه الحركة الوجدانية النقلية النوعية حقق اجتماعا انفراديا و استثنائيا لتداخل الجهاد الأكبر بالجهاد الأصغر، انتم تعلمون بأن الرسول - عندما رحب ببعض المجاهدين الذين أقبلوا من الجهاد قال لهم مرحبا بقوم قدموا الجهاد الأصغر و أقبلوا على الجهاد الأكبر؛ فالجهاد الأشد و الأعنف ليس هو القتال و إنما الجهاد الأكبر هو مواجهة النفس و المسير و الانتقال الى الله جل و علا من خلال هذا المسير أما أن تتحول هذه الحركة الى لون جديد من الحركة الى الله جل و علا و نحو خاص من التوجه الى الله جل و علا فهذه حادثة استثنائية على مستوى الحركة البشرية، كلنا تقريبا سمعنا بهذه الرواية و المقولة أن للإمام الحسين مقام لا يبلغه إلا بالاستشهاد في كربلاء؛ إن هذه الرواية بإجمالها واضحة و لكن ماذا تعني في أعماقها ؟ إنها تعني أن هناك حركة خاصة استثنائية يقوم بها الإمام الحسين % في رجوعه و له نحو رجوع خاص من الوجود و الآثار و المخلوقات إلى الحق جل و علا، هذا الإقبال هو نحو حركة خاصة يتحقق من خلالها صون خاص للسر و قد مر أن هذه الحركة هي حركة جوهرية ديناميكية ذاتية للإمام % نابعة من الأعماق.

2/ لسلوك الحسين جذبة شمولية

إن هذا الطريق الذي انتخبه الإمام % ليس طريقا انتخبه لوحده بل لشدة اندفاع الإمام و مضيه في هذا الطريق أحدث اندفاعاً بشرياً و أحدث تيارا بشريا جذب معه كل البشر الذين تبقت في نفوسهم بعض الكرامة، فكل مَن بقي في أعماقه شيء من الانسانية لم يتمالك أن يجذبه هذا الاندفاع الحسيني الاستثنائي، لم يتمالك إلا أن يجرفه هذا التيار، حتى أن بعض أعدائه بل بعض قادة الجيش الآخر لم يتمالكوا كما هو الحال في زهير بن القين و الحر بن يزيد الرياحي الذين اندفعوا في اتجاهه، إن من يندفع مع هذا الخط فإنه يتذوق حلاوة الاندفاع الحسينية و الانقطاع الحسيني حتى أنه يبلغ به الشوق و المحبة و المودة و الارتباط بهذا الاتجاه ما لا يستطيع الانسان أن يقاوم الأحاسيس و المشاعر الحسينية فينصهر فيها.

3/ سلوك الحسين % حدث تاريخي

لم تتجاوز أحداث هذه الواقعة الساعات من النهار و لكنها رسمت ألوان من الحب و التعلق و الشوق حتى أن أصحاب الإمام % لم يعودوا يشعروا بأي شيء في هذا الوجود، و لم يعودوا ينظروا إلى أي متعلّق من متعلقاتهم في هذا الوجود، لقد تجاوزوا الأهل و الأحبة و الأموال بل تجاوزوا أكثر من ذلك! لقد تجاوزوا حتى متطلبات البدن و أحاسيس البدن، لقد توجهت كل مشاعرهم و أحاسيسهم إلى هذه الأنوار الحسينية التي تلألأت من خلال هيجان الأحاسيس وتفاعلها و من خلال النبضات التي كان ينبضها قلب الحسين % في تلك اللحظات ولا يستطيع إمرء في هذا الوجود أن يطّلع على هذا النوع من الإحساس و الكمال و السلوك الإلهي الجبار الذي استطاع في آنات، بل إن هذا السلوك الى الله جل و علا غير خاضع الى عنصر الزمان، لقد استطاع الإمام الحسين % من خلال هذه الأحاسيس و المشاعر أن يطوي مسافات استَعصت على البشرية أن تُحدثها في تاريخها الطويل، إن هذا الاندفاع الحسيني الذي أحدثه من خلال هذه الأحاسيس الرقيقة و المشاعر الدقيقة أن يستصحب معه النفوس الجليلة التي أحاطت به؛ بل إنه في الحقيقة اصطحب معه حدثاً تاريخياً ذو امتداد على مستوى التاريخ منذ آدم الى الخاتم -، فكل الأنبياء و الصالحين و الخيّرين عندما يطَّلعون على أحداث كربلاء؛ بل إن الأرواح في بعض مقاماتها قد أحاطت فعلا بهذه الحادثة فأبونا آدم و أنبياء الله أولوا العزم و غيرهم من الأنبياء ( وقفوا في أرض كربلاء و بكوا الإمام الحسين % و نحن جدير بنا أن نقف و نبكي و نتألم. نقف عند هذه الروح التي لنا كل الحق في أن نتأسف و نُسخِّر كل ما عندنا من أحاسيس و مشاعر لنوفَّق إلى أن ننجذب جذبة إلهية حسينية نستفيد من هذه السفينة و نلجأ إليها لتجرَّنا و تصحبنا في اتجاه السماء الذي منّ الله به علينا و على جميع أهل الأرض و مالنا في الختام إلا أن ننادي: (السلام عليك يا أبا عبد الله و على الأرواح التي حلت بفنائك و أناخت برحلك) إنها حركة إلهية وهبها الله لنا لكي نستفيد منها و لكي تكون منجى لنا في الدنيا و الآخرة و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين.

 

 

[1] الكوفي الاهوازي ، الحسين بن سعيد، الزهد  ج۱ ص49.  وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ أَصْبَحَ وَ اَلدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ فَلَيْسَ مِنَ اَللَّهِ فِي شَيْءٍ وَ أَلْزَمَ قَلْبَهُ أَرْبَعَ خِصَالٍ هَمّاً لاَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أَبَداً وَ شُغُلاً لاَ يَنْفَرِجُ مِنْهُ أَبَداً وَ فَقْراً لاَ يَبْلُغُ غِنَاهُ أَبَداً وَ أَمَلاً لاَ يَبْلُغُ مُنْتَهَاهُ أَبَداً . تنبيه الخواطر و نزهة النواظر (مجموعة ورّام)  ,  جلد۱  ,  صفحه۱۳۰

[2] بن طاووس، إقبال الأعمال، ج1، ص348.

[3] القدر:1.

[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج44، ص316.

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني