في رحل الحسين 2: صون السِّر (العرفان)

25-07-2023

صون السِّر (العرفان)

7/1/1431هـ

في دعاء لأبي عبد الله % يقول: إِلهِي أَمَرْتَ بِالرُّجُوعِ إِلى الآثارِ فَارْجِعْنِي إِلَيْكَ بِكِسْوَةِ الأنْوارِ وَهِدايَةِ الاِسْتِبْصارِ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ مِنْها كَما دَخَلْتُ إِلَيْكَ مِنْها مَصُونَ السِّرِّ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْها وَمَرْفُوعَ الهِمَّةِ عَنِ الاِعْتِمادِ عَلَيْها إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ.

أقسام المعرفة

يقسّم العلماء المعرفة و الفقاهة و الثقافة الى منهج فلسفي عقلي و آخر قلبي عرفاني فيقولون أن الانسان تارة يتأمل في الأمور من خلال عقله و قدراته الإدراكية الصِّرفة، ويمكن القول أننا نعيش في كل الأمور؛ سواء في فهمنا للمعالجات الاجتماعية أو في إدراكنا لله جل و علا على أساس الإدراكات العقلية و الفهم العقلي. و لكننا أيضا نمتلك ملكة أخرى و قدرة أخرى هي الأحاسيس و المشاعر فنتلمس يد الغيب في أنفسنا و في الوجود و هذا بالعرفان، فالعرفان هو مقابل الفلسفة و طريق آخر للتعامل مع الغيب و الله و الملائكة و السماء.

يمكن التمييز بين العرفان و العلم تمييزا في الاستعمال، فإننا نقول (عرفت الله) و لكن لا نقول (علمت الله) و كذلك نقول (عرفت زيدا) و لا نقول (علمت زيدا) و ذلك أن العلم يتعلق بالكليات نقول علم النحو و التجويد و الصرف و الفلسفة و العرفان، فالإحاطة العقلية و التعامل العقلي بأي علم من العلوم هو علم و إحاطة تصورية كلية يعني أن العلوم هي ما تعرفها من خلال عقلك و لكن أن تعرف نفسك، لا تقول (أنا أعلم نفسي)!، بل تقول (أنا أعرف نفسي) فمعرفة النفس هي الإحاطة الوجودانية بالقلب و مكنونات النفس و أحاسيسها و واقعها و لكي يتضح الفرق بين طبيعة و منهجية هذين النوعين من الإدراكات نقدم مقدمتين أساسيتين قد يطول بنا الحديث فيهما و لكنهما العمدة في التمييز بين المنهجين.

1/ مراتب الوجود

إننا بحاجة إلى معرفة مراتب هذا الوجود حيث أننا غالباً ما نتقيد بما نتصوره عن الكرة الأرضيةالتي نعيش عليها، حيث تحتنا الأرض و فوقنا السماء و هذا هو العالم المادي المحسوس المُدرك.  و لكن واقع الوجود أعمق من ذلك و أكبر منه بل إن هذا العالم الملموس و المادي ليس إلا مرتبة من مراتب الوجود؛ بل أنه في الحقيقة هو المرتبة الدنيا و الأخيرة من الوجود.

و السر في ذلك أن الله جل و علا بما هو موجود غير مادي و هو حقيقة الوجود عندما يخلق مخلوقا إنما يخلق أمراً مسانخاً و مجانساً لذاته، و لا يخلق المادة بشكل مباشر و ذلك يرجع إلى قاعدة السنخية بين العلة و المعلول، فالنار تنتج الحرارة و الحرارة في حقيقتها هي نار خفيفة و الماء ينتج الرطوبة و الرطوبة في حقيقتها ليست إلا ماء خفيف، فكل علة إنما تنتج ما يتجانس و ينسجم مع ذاتها. إن النور المطلق و هو الله جل و علا إنما ينتج نورا و لا ينتج ظلمة و الله نور مجرد و غير محدود فإنما ينتج نورا؛ إلا أن هذا النور يتنزل فيصبح هناك حكم للموجود و هو أنه بما أنه مخلوق فسوف يكون محدود و آني و محكوم بزمان و مكان و سوف ينتهي بظلمة! صحيح أنّ الموجِد -و هو الله جل و علا- مطلق و مجرد و نور و لكن الموجود بطبيعته محدود فسيكون محدوداً و منتهياً بالظلمة، فتظهر أحكام مرتبطة بالموجود و هي حالة الترتب و التنزل.

إنّ حدث الإيجاد و حقيقة الخلقة من حيث أنها مرتبطة بالله جل و علا فهي شأن بسيط آني يعني أن الله جل و علا في حقيقة إيجاده لهذا الوجود مثل إيجادك لفكرة في ذهنك، هذه لا تحتاج إلى تعمل و بذل جهد، مثاله الذي ذكرناه عدة مرات أنك أنت عندما تخلق وهما و خيالا في ذهنك فهي عملية دفعية كما يعبّر القرآن الكريم عنها بقوله: (وَمَآ أَمۡرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٞ كَلَمۡحِۭ بِٱلۡبَصَرِ)[1]؛ فإيجاد كل هذا العالم حركة دفعية سريعة كلمح البصر، بل أسرع من لمح البصر و لكن طبيعة هذا الوجود و تقرره في الخارج يحتاج الى مراحل. و لذلك يفصّل القرآن الكريم فيقول: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)[2] و هذه الآية تكررت بالنص في سورة الأعراف و في سورة يونس. طبعا من الواضح أن ستة أيام هنا ليست الأيام بمعنى أربعاً و عشرين ساعة لأنه لا معنى للأيام التي هي بمعنى دوران الكرة الأرضية حول نفسها لأن الكلام عن خلق السماوات و الأرض فبعدُ لم توجد أرض. كما يقول القرآن الكريم: (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)[3] ، و أيضا هذه الآية تكررت في سورة الفرقان و في سورة السجدة بتغير طفيف، هنا لايراد بستة أيام أي ستة أربعاً و عشرين ساعة و إنما هذا التعبير يحكي عن ستة مراحل و ستة مقامات و هنا للعلماء و علماء العرفان كلام طويل و عريض يقولون أن هذا العالم كان في حالة التوحد و في مرحلة الواحدية ثم حصل فيض أقدس و تولدت منه عوالم ثم حصل فيض مقدس و كانت هناك مرحلة الوحدانية و مرحلة الأسماء و مرحلة التمثل...، و مراحل يقسمونها و يختلفون في طبيعتها و لكن و بالإجمال هذا المقدار هو ما ينصص عليه القرآن الكريم أن هذا الوجود مر بمراحل و مراتب و شيء يعلوه شيء آخر  هذا من جهة، و هذه هي الزاوية الأولى التي تخدمنا في ما نريد أن نصل إليه.

2/ مراحل حركة الانسان في سلوكه إلى الله

الزاوية الثانية هي مرحلة حركة الانسان في الارتباط بالله جل و علا، ولهذه مراتب و مراحل أيضاً ، فالانسان لا ينطلق في الارتباط بالله جل و علا بشكل مباشر و إنما هناك مراتب.

يقول الفلاسفة أن النفس البشرية مرتبة من مراتب النفوس فيقولون هناك نفس نباتية و هناك نفس حيوانية و ثالثا هناك نفس انسانية. الروايات في هذا المقام أوضح على أنها تشير إلى معنى لا يخلو من التعقيد، ففي رواية عن الإمام الصادق % يقول لجابر: ياجابر في الأنبياء و الأوصياء خمسة أرواح[4]. و لكي لا نطيل الحديث، لن نتكلم عن طبيعة النفوس و الأرواح بل سنتكلم عن أنفسنا التي لمسناها و أدركناها و شعرنا بها، أنا و أنت كنا في يوم ما -و مرتبة ما- نطفة حيوان منوي صغير بالكاد يرى بالمجهر، إنه أشبه ما يكون بموجود نباتي يمكنه أن ينمو نمو النبات لا يمتلك اختيارا و لا حرية الحركة و إنما يتحرك حسب الفطرة و الغريزة ثم تنمو هذه البذرة الصغيرة لتكبر و تتحول إلى جنين و هذا الجنين و الانسان عندما يخرج الى هذه الحياة لا يعدو أن يكون حيوانا حاله حال الحيوانات يتحرك بإرادة و اختيار و لكن لا عن وعي ولا على أساس الفهم ثم ينمو هذا الموجود ويتحرك حركة جوهرية، ماذا يعني الحركة الجوهرية؟ نحن العرب رأينا الرطب و التمر ، كان في البداية حبة صغيرة تأتيها الغذاء من الخارج و ما يحصل في هذه الحبة ليس هو مجرد تراكم الغذاء و إنما حالة من الحركة الداخلية و الاحتراق الداخلي و تبقى هذه الحركة مستمرة فتنمو هذه الثمرة بل تتغير ألوانها و نحن ندرك أن هذا التغير في اللون إنما هو ناتج عن تحرك داخلي و تغير في داخلها و أعماقها، عندما تنمو هذه الثمرة و تكبر تتحول إلى رطبة صفراء أو حمراء ثم تبقى في حالة حركة حتى تتحول إلى تمرة أشد لطافة و لذة هذه الحركة تسمى حركة جوهرية. فالانسان بعد أن يصل الى مرتبة الحيوانية تبقى خلية في أعماقه تقوده الى مستويات أرفع فنفس الروح التي كانت في الخلية البسيطة الواحدة نمت و كبرت كما كان يكبر الجسم و لكن في عمق هذا الجسم يوجد سر لطيف فيه القابلية للنمو و الكمال و التقدم و يبقى يستمر في النمو حتى بعد توقف البدن عن النمو، و هنا يبقى للروح انطلاقتها تقول الرواية: (إنّ فى الأنبياء و الأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الايمان و روح الحياة و روح القوة و روح الشهوة)؛ سوف أبدأ في العد من الأسفل أيضا، الروايات تختلف في تسمية هذه الأرواح، طبعا لا يوجد أرواح خمسة في عرض واحد و إنما هي روح تسمو في مراتبها و في حقيقتها فهي بدوا تكون روح نباتية ثم تتسامى إلى أن تصبح روحا حيوانية بها -كما تعبّر الروايات- يشتهون الطاعة و يكرهون المعصية، ثم تنمو هذه الروح حتى تتحول إلى روح القوة فيقدرون على طاعة الله ثم تنمو هذه الروح حتى تصبح روح الإيمان فبه خافوا الله عز و جل و أصبحوا يدركون معاني العلاقة مع الله جل و علا و حتى تسمو هذه الروح في بعض مراتبها و هي خاصة بالمعصومين و الأنبياء و الأوصياء و تصل الى حد روح القدس فبه عرفوا الأشياء. عندما تبلغ بروح الانسان هذه المرتبة من التكامل و العلو و الرفعة تنفتح أمامها آفاق مراتب الوجود التي تكلمنا عنها في مرتبة سابقة.

عندما يعيش الانسان عيشة النبات و هو لا يبقى في حد النبات حتى لو رغب في ذلك لأن هناك حركة ذاتية غير إرادية تنقله من حد النباتية الى حد الحيوانية و لكنه إذا بلغ حد الحيوانية يستطيع أن يقف هناك عندما يعيش مع رغبات الحيوان و احتياجاته و أهدافه و حياته فإنه سوف يبقى يعيش لذة البدن و  احتياجاته و أغراضه فستكون هذه الروح التي فيها قابلية أن تسمو من هذه المرتبة الى مرتبة الإيمان و التي تفتح  بعض آفاق مرتبة الوجود إذ أنه بمرتبة روح الإيمان تسمو نفس الانسان و تنطلق و تكسّر حدود الحيوانية، لنتأمل في الحالات الحيوانية التي تنتابنا عندما نجوع و نعطش و عندما نمارس احتياجاتنا البدنية كالنوم و المضاجعة و الاهتمامات البدنية فإن أرواحنا تنشغل بحاجة البدن فتصبح عقولنا و مشارعنا و أحاسيسنا تعيش هذه الهموم و تتلذذ ببعضها، فنحن نأنس بالأكل و الشرب نأنس بأن نوفر لأبداننا احتياجاتها من حيث الملبس الناعم و المسكن الوفير و الأجواء المناسبة، عندما تنشغل الروح باحتياجات البدن فإنها تكون حبيسة البدن و تبقى في مرتبة الحيوانية و لكن هذه الروح عندما تتعالى عن احتياجات البدن و تترفع عن أن تخضع لاحتياجات البدن فإنها تسمو لتعيش آفاق وجودية أسمى من حاجة البدن وندخل في عالم الإيمان فتصبح أرواحنا مدركة لبعض الأنوار السماوية و لبعض قواعد الغيب و لبعض أحكام السماء و لكن بعض الموجودات تتسامى أرواحهم حتى عن هذا الحد فتبلغ مراتب الملائكة و تترفع الى مستوى أن تعيش مع واقع فوق هذا الواقع الذي ندركه و نحسه لتعيش ذلك الواقع.

و لكن لنرجع للتفريق بين المعرفة و العلم إن العلم هو الإحاطة بالتصورات. أنا  و أنتم الآن نتكلم عن معاني عرفانية و لكن على مستوى التصور و على مستوى الفهم العقلي و هذا ليس بمعرفة فعندما أقول لك أن العسل حلو و التفاح لذيذ و أن رائحة العطر منعشة، هذه المفاهيم أصبحت واضحة في أذهانكم و لكن مَن منكم تلذذ بطعم العسل و من منا أحس الآن بنكهة التفاح ، من منا تمتع فعلا روحا و وجدانا بآثار العطور المنعشة؟ إن هذا يحتاج الى مراس و وواقع خارجي و تفعيل في الخارج فالعرفان هو فعلية التصور، و التصور هو إدراك المعرفة فأنت لا تعرف الله إلا إذا توجهت للأنوار الإلهية و أحاط قلبك ببعض ما ترسله هذه المصادر النورية إلى أعماقك، فالعلم ليس بالتعلم و ليس بالنظر في الكتب، المعرفة ليست بالتعلم و ليست بالنظر الى الكتب و لكنه نور يقذفه الله في قلب من يشاء من خلال السلوك العلمي الخارجي، ومن خلال الإنطلاق في الحياة، من خلال المراس الوجوداني و المواجهة الوجدانية و الحركة الوجدانية. من خلال الصبر و التأمل و التألم و من هنا يقال أن للإمام الحسين % مرتبة هو بالغها لا يبلغها إلا بالعبور في أرض كربلاء والشهادة.

الإمام الحسين %  في هذه المرتبة ، في مرتبة الصبر و التجلد و التمسك كان يمارس حركة عرفانية، أحاطت به مجموعة من الأسباب و المقتضيات و لولا مجموع هذه الأسباب و المقتضيات و المؤثرات لما كان يبلغ الإمام %  هذا المبلغ فلن نصل له نحن و لا غيرنا أيضا إلا من خلال العبور في نفس هذا الاتجاه و نفس هذه المحنة إن ما عايشه الإمام الحسين %  من ألم و من تحمل! المسألة ليست مسألة ألم في أنه يصاب في بدنه و إن كان في إصابته في بدنه توهين لمقامه و لكن الألم هو أن يعرض عليه هذا الموقف المهين و يُطلب منه و من مثله أن يبايع أمثال هؤلاء القوم ويتم تخييره بين البيعة أو أن يُقتل! هنا اختار الإمام هذا السلوك و دخوله هذا المعترك و إحاطة الأسباب به إنها كلها عوامل و عناصر ضاغطة مؤثرة مفعلة لروح الإمام %  لكي تتوهج هذه الروح في إقبالها إلى الله جل و علا و في ارتباطها بالله جل و علا حتى أنها أصبحت في مرتبة من التسامي و التعالي و الرفعة أنها أصبحت روح القدس. أصبحت روحا غيبية أصبحت موجودا محيطا بقواعد السماء و من هنا نحن لا نعجب عندما نعلم أنهم ( يعرفون الكثير من الحقائق التي هي عبارة عن مرتكزات هذا الوجود و أساسه و مدبراته فهم ترقوا إلى تلك المراحل و بلغوا تلك المقامات.

 

[1] القمر:50.

[2] الأعراف:54.

[3] الفرقان:59.

[4] عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن علم العالم، فقال لي: يا جابر! إنّ في الأنبياء و الأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الايمان و روح الحياة و روح القوة و روح الشهوة، فبروح القدس يا جابر! عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى . ثم قال: يا جابر! إن هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلا روح القدس فإنها لا تلهو ولا تلعب (الكافي ، ج ۱ ص 4۰۱) .

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني