عوالم النور (2): مراتب تجلِّي النُّور الإلهي وموقعيَّة الانسان بالنِّسبة لها

27-01-2023

بسم الله الرحمن الرحيم

برنامج سماحة الشيخ عبدالله الطاهر النمر  في شهر رمضان المبارك سنة 1442هـ

 

عوالم النّور

2/ مراتب تجلِّي النُّور الإلهي وموقعيَّة الانسان بالنِّسبة لها

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيِّدنا وحبيب قلوبنا محمد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿۳۵﴾)

إنارة

تكلمنا في الدرس الماضي عن علاقة بحث هذه السنة بما مضى من أبحاث في السنوات الماضية و انتهينا إلى إثارة سؤال وهو أن الله أوجد العالم المتحرك المحدود، كل ما نلمسه من العالم المادي هو متبدل متغير وحادث أي لم يكن موجود ثم انوجد، ثم أعدنا صياغة السؤال من خلال طرح إشكالين: الأول هو التلازم العقلي بين العلة والمعلول ومعيتهما، هناك تلازم بين تحريك اليد وفتح الباب مثلاً، الثاني هو السنخية بين العلة والمعلول، مثلا حركة يدي لا تُحدث حرارة أو رطوبة، بلا توجد حركة تُحرك الباب مثلا، النار لا تُوجد رطوبة و إنما توجد ما يسانخها و ما هو من جنسها كالحرارة أو الإنارة، السؤال هنا هو كيف أوجدت العلة القديمة غير المحدودة معلولا حادثاً محدوداً؟!

بالأمس أشرنا إلى ثلاث محدوديات زمانية ودهرية وسرمدية، في هذه الليلة نريد أن نُصوِّر الموضوع من زاوية أخرى.

مراتب التجلي الإلهي

 خلاصة ما يذكره العلماء أن الله نور مطلق، و هناك مراتب يتجلى فيها نور الله تُعرف بالمراتب الألوهية، الله يتجلى لخلقه في مراتب و أنحاء متعددة.

هناك مراتب للتجلي الإلهي، إن ذات الله لا تخضع للإشارة ولا التسمية ولا الإدراك فضلا عن الحديث عنها لأن كل ما توهمتموه هو مخلوق مصنوع لكم، هذه التصورات لا ترتبط بالذات الإلهية، أنّا للمحدود أن يحيط بالمطلق!

و لكن النور الإلهي يتجلى نورا يسانخه، هذا النور الأول هو الفيض الإلهي و يسمى بالفيض الأقدس يعرف بالأقدس لشدة نورانيته حيث تختفي في حضرته كل كثرة وتندك في أعماقه كما سيأتي، لكن مع ذلك هذا النور هو معلول، هو نور صدر عن النور، هذا النور أي نور الفيض الأقدس في مرتبة يسمى الأحدية و في مرتبة أخرى يسمى الواحدية.

تنبثق في مرتبة الواحدية الأسماء الإلهية، أشرنا في أبحاث سابقة إلى أنّ الأسماء الإلهية ليست ألفاظا بل هي مرتبة من مراتب نور الله.

 

هذه المراتب كلها في الصقع الربوبي أي الموجودات لاتزال كنزا مخفيا أي لم يأت دور ظهور عالم الخلق، هذا لا يعني أنها معدومة مطلقا بل هناك تدرج في ظهور المخلوقات، الكلام في أنه لم تُوجد دفعة واحدة بل هناك ترتب، لكن كل الموجودات حتى أنا وأنت لم نكن أعداما ثم انوجدنا بل كان لنا وجودا لكنه مندك في تلك الأنوار. لتوضيح الفكرة نترجمها بالمنطق المادي الآن هذه الشجرة أو النخلة التي نراها ذات الثمار، أ ليست النخلة موجودة منطوية في النّواة كشفرة وراثية؟ هذه النّواة أ ليست هي موجودة في الرّطَبَة و كانت في نواة قبلها؟!، مثال آخر أنا الانسان أ لم أكن موجوداً في صلب أبي وأنا وأبي أ لم نكن في أصلاب الآباء بنحو أكثر بساطة و هكذا منذ آلاف السنوات بل منذ أن خلق الله آدم عليه السلام؟!

الأنوار في الفيض الأقدس تنطوي على كل المخلوقات لكن على نحو البساطة و الخفاء.

عندما وُجدت المرتبة الثالثة من النورانية أي مرتبة الأسماء الإلهية، فإن هذه الأسماء في الصقع الربوبي أوجدت مراتب الصقع الخلقي، و أول مراتبه عالم العقل، أنا وأنت أجسام تنطوي على روح، لهذه الروح مراتب وتجليات، البعض يقول في الآية المباركة (مثل نوره) أي روح المؤمن الخالص في تلألئه كأنه مشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة، أنت أيها الانسان عبارة عن عقل تنزلت في مراتب متدنية فظهرت مرتبة البدن، فالبدن مرتبة نازلة للروح.

عالم الخلق والأمر

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[1].

هناك عالم الأمر و الخلق، يراد بالعالم الخلق أي الصقع الخلقي وهو على مراتب ثلاث: عالم العقل، والمثال، والمادة، هذه العوالم الثلاثة كلها تمثل عالم الخلق.

بالأمس سأل البعض عن السماوات السبع هل هي مادية أم مجردة أو هل هي من عالم الخلق أم من عالم الأمر؟ السماء الدنيا من عالم المادة (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب)[2] مرحلة عالم المادة خاضعة للزمان والتتالي الزماني على خلاف بقية مراتب النور.

إذن النور الأول أوجد المعلول المسانخ له وهو التجلي الأعظم و هو الواسطة التي تأخذ صفات علّتها لكن لا تنقلها إلى المعلول بتمامها و إنما تنقل لمعلولها صفاتها هي، يعني أنّ الله جل وعلا أوجد نورا هو الفيض الأقدس ثم هذا النور أوجد نورا أقل هما الأحدية والواحدية، الأحدية تندك فيه كل المخلوقات والكمالات، كلها تائهة ذائبة في شدة نورانية تلك المرتبة و صفائها حتى لا تكاد تشعر أن هناك شيء موجود، ثم في الواحدية يكون للمخلوقات شمّة وجود ثم في مرحلة الخلق يصبح هناك تمايز أكثر و يشتد التمايز إلى أن نصل إلى عالم المادة حيث التمايز الشديد بين المخلوقات. هذا التفسير المجمل يرسم لنا تصوراً عن العلاقة بين النور المطلق و مخلوقاته المحدودة المادية، هذا أوّلاً.

موقعية الانسان في مراتب تجلي النور الإلهي

ثانياً: نريد أن نشير إلى موقعية الانسان في تجلي النور الإلهي في مراتب متعددة. لكي نبيّن موقعية الانسان في التجلي ينبغي أن نرجع إلى الروايات التي ذكرناها سابقا، والتي تتحدث عن "أول ما خلق الله" بعضها تشير إلى أنّ أول ما خلق الله: نور نبيك يا جابر، أول ما خلق الله نوري، أول ماخلق الله القلم، المشيئة، هذه حيثيات متعددة للصادر الأول.

هو القلم الأعلى أ ليس كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ؟ كتبه القلم الأعلى هناك الكتابة ليست أمرا اعبتاريا كما نصنع نحن هنا عندما نكتب حيث نتواضع على كلمات مثلا الفانوس وهو "ما ينشر النور"، لكننا نتواضع على أن نسمي الجهاز الحديث اليوم بهذه الاسم، في حين كان يطلق الفانوس على جهاز له فتيل يوضع فيه زيت و يُغطى بزجاجة، بين هذين الجهازين فكرة مشتركة من حيث أنه يصدر منهما النور، كذلك الحال في القلم واللوح، كل ما يكون علة لتسجيل الأحداث التكوينية أو الاعتبارية هو القلم و كل ما يحتفظ بمجريات الأحداث هو لوح، (وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍۢ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِين)[3] هذا الكتاب منطوي على الحقائق التكوينية التي سوف تكون، هذا سبيه بالمثال التقريبي المادي الذي ذكرناه، كأنه أنا في حويمنات جدي التاسع عشر، فيكون جدي التاسع عشر مثل الكتاب المكنون بالنسبة لي، لأنه منطوي عليّ لكن لا ينطوي علي بكل بدني وتفاصيلي بل منطوي علي من خلال جينات سوف تتكثر وتنمو في أجدادي مما يليه، كذلك تلك الأنوار هي تنطوي على كل مجريات الكون التي سوف تقع بترتب معيّن.

 

موقعية الانسان هو أنه المركز لكل الأحداث التي تجري في هذا الكون منذ النور الأول، يعني أوضح نور و أبهج نور صدر من النور الإلهي المطلق هو نور نبيّك محمد صلى الله عليه و آله. وهذا ما تدل عليه الروايات و يدل عليه العقل أيضاً. الانسان هو خلاصة الوجود، إذا تأملنا في عالم المادة نجد هذا العالم المترامي الأطراف على مستوى المادة، هذا العالم الشاسع في مساحته الجغرافية، يبلغ من العمر 14 مليار سنة، في حين أنّ عمر الانسان على الأرض في أحسن الظروف هو 12 ألف سنة، لكن هذا الانسان هو سر الوجود لأن امتداده من ذاك العالم. الانسان هو أصل النور ومبدأ الخليقة لذلك يعرف بالصادر الأول والنور المحمدي وهو الانسان الكامل، الرسول صلى الله عليه وآله الذي ولد في 650م هو أصل وجوده النوري الذي تجلى في نور الصبر و الجمال و غيرها من الأنوار التي بقي في كل منها آلاف السنوات، هذا التصنيع الإلهي للكون بحيث يكون الانسان هو لبّ وخلاصة عالم الوجود.

منهج البحث في عوالم النور

هناك ثلاث محاولات لفلسفة هذا الكون، المحاولة الأولى للمتكلمين حيث يفترضون وجود خالق ومخلوق بينهما تمام الامتياز والتباين و أن الله خلق الكون من العدم. تُعرف نظريتهم بنظرية الخلق لكن هذه النظرية واضحة البطلان لأنه يلزم منها محدودية الخالق و يلزم منها عدم السنخية بين العلة والمعلول فالعلة واجبة الوجود والمعلول ممكن ومتغير توضيحا للفكرة عندما تسأل المتكلّم: متى خلق الله الكون؟ يقول لك أنّ الله كان موجودا ولم يكن هناك أي مخلوق ثم فجأة خلق الله جل وعلا خلقا!. أ لا يلزم من ذلك حصول تغير على الله عز وجل.

ثم محاولة الفلاسفة الذين افترضوا أن هناك سلسلة من العليّة والمعلوليّة و أن الوجود هو معلول للمُوجد.

ثم محالة ثالثة للعرفاء الذين رفضوا العلة والمعلول بالمعنى الفلسفي و قالوا بأن هناك وجود واحد وشؤونه ومظاهره بالترتيب الذي ذكرناه.

الله نور يتلألأ فتظهر مراتب متعددة، هذا الوجود النوري (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام)[4] يقولون ليس كل من عليها فان يعني سيفنى في يوم من الأيام؛ بل المقصود هو أنّ كل هذا الذي نتصوره موجود هو فان في ذاته مندثر مندك من الأزل إلى الأبد، الباقي هو ما كان مرتبط بالله، أ لم يقل علي بن أبي طالب (أنا وجه الله) و (نحن يد الله)، كل ما هو حق يبقى ، أنا و أنت بمقدار ما نتجرد من القبيح و الملوثات ونخلص في الطيبة و الصدق و الإيمان يكون فينا وجه من الله فنبقى وبمقدار ما نتلوث ونتشبث بالدنيا نصبح ملوّثين ومندثرين و فانين، وهذا المثال الذي يذكرونه من أنه :

 

رقّت الزجاج ورقّت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر

فكأنّما خمر ولا قدح و كأنّما قدح ولا خمر

 

 

عندما يصبح الماء رقراق زلال و الإناء كذلك ناعم رقيق، فإنه عندما يوضع الإناء على الطاولة، لا تدري هل هو ماء متجسّد أم هو إناء فارغ، كلاهما متشابه. كذلك الإيجاد في هذا العالم هو صدور النور من النور، هو صدور النور المتنزل في عالم الأنوار.

 

 


[1] سورة الأعراف: 54.

[2] الصافات: 6.

[3] النمل: 75.

[4] الرحمن: 26 و27.

صور اخري

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني