الدعاء: أسراره وآدابه

26-01-2023

بسم الله الرحمن الرحيم

برنامج سماحة الشيخ عبدالله الطاهر النمر  في شهر رجب الأصبّ سنة 1443هـ


 

الدعاء: أسراره وآدابه

1/ موقعيّة الدعاء في رجوع الإنسان إلى الله

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيّدِنا وحبيب قلوبنا محمد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.

﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ[1].

نبارك لكم هذه الأيام الكريمة وهذا الشهر الشريف شهر رجب الحرام جعلها الله لنا ولكم -إن شاء الله- أيام خير وبركة ورشاد.

1/ أسرار الوجود في قوسي النزول والصعود:

 يقول الله عزّ وجلّ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ تنطوي كل أسرار الكون في هذين القوسين: قوس الصعود وقوس النزول، وقد أشارت الآية المباركة إليهما في قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون، إنّ كل مكنونات هذا الوجود تظهر بين هذين القوسيين، قوس النزول هو قوس الخلق، كيف بدأ الله عز وجل هذا الخلق ثم كيف يعود الخلق إلى الله عز وجل.

كيف بدأ الله الخلق؟

أما كيف بدأ الخلق فهو شأنٌ عظيم وأمرٌ جَلَل، يظن البعض أن الله عز وجل خلق الخلق بين ليلة وضحاها!، في حين أنّ الروايات تشير إلى أن الخلق مرّ في مراحل وقد ذكر العارفون بحقائق الكون تفاصيل كثيرة وطويلة عن تلك المراحل.

يكفي أن نشير إلى ما ذكره القرآن الكريم وهو أن خلق السماوات والأرض قد وقع في زمن مديد، إنّ خلق الله للسموات والأرض لم يكن في طرفة عين وإنما في ستة أيام، والله جل وعلا أعلى شأنا من أن يحتاج إلى أيام وساعات، إنّ فعله جل وعلا يتصف بالأمرية ويقع كلمح البصر، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر[2]، لكن المخلوق بطبيعته يحتاج إلى مراحل من أجل التصنيع والتخليق.

لعلكم سمعتم بالروايات التي تتكلم عن مراحل تخليق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وكيف أنه تدرّج في مراتب الأنوار آلاف السنوات وانتقل من طور إلى طور وبين كل مرتبة وأخرى آلاف السنوات وقد قرأنا لكم بعض الروايات التي تتكلم عن تلك العوالم في أبحاث سابقة، هنا ما نريد أن نسلّط الضوء عليه هو أنّ خلق الله عز وجل إلى الكائنات جميعها ينطوي على مراحل كثيرة ومراتب.

إطلالة على بعض مراتب عالم الخلق:

نستهدي إلى بعض تلك المراتب بالاعتماد على أحد تلامذة مدرسة أهل البيت عليهم السلام وهو سلمان الفارسي حيث يقال أنّ سلمان الفارسي (رضوان الله عليه) دعا أخاه أبا ذر (رضي الله عنه)، وتعلمون أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد آخى بين سلمان وأبي ذر.

وقد وصلت لنا حكايات كثيرة تشير إلى أنّ سلمان قد دعا أبا ذر إلى منزله في أحد الأيام، وقدَّم له طعامًا سنذكر فيما يلي إحدى تلك الحكايات. جاء في كتاب عيون أخبار الرّضا (عليه السلام) : «حدّثنا عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق (رضي الله عنه) قال: حدّثنا محمّد بن هارون الصّوفيُّ، قال: حدّثنا أبو ترابٍ عبيد اللَّه بن موسى الرّويانيّ، قال: حدّثنا عبد العظيم بن عبد اللَّه الحسنيّ عن الإمام محمّد بن علي، عن أبيه الرّضا عليّ بن موسى، عن أبيهِ موسى بن جعفَرٍ، عن أبيه الصّادقِ جَعفر بن محمّدٍ عنْ أبيه عَنْ جَدّه (عليهم السلام) قال: «دَعا سَلمَانُ أبا ذرّ رحمهما الله إلى منزلهِ، فقدّمَ إليه رَغيفيْنِ فَأخذ أبو ذرّ الرّغيفَيْنِ فقلّبهما فقالَ سَلمانُ: يا أبا ذرّ! لأيِّ شيءٍ تُقلّب هذين الرّغيفينِ. قال: خفْتُ أن لا يكونَا نضيجَينِ».

يقصد أبو ذر أنني أريد التأكد من جودة إعداد قرصي الخبز وحُسن صناعتهما، هل أتقن الصانع صناعتهما؟ قد يتخيل الإنسان أنّ الصانع هنا هو الخبَّاز والطحَّان والعجَّان فقط دون سواهم، ولكن لاحظوا سلمان ماذا يقول في قرصَي خبز، ولعلّ رغيف ذلك اليوم لا يكون قابلا للأكل عند الناس اليوم، يعني لو جيء لنا بهذه الأقراص لافترضنا أنها غير صالحة للأكل!.. لنُكمِل التأمل في الحكاية: «قال -أبو ذر-: خفْتُ أن لا يكونَا نضيجَينِ، فغضبَ سلمانُ من ذلك غضبًا شديدًا».

هنا لا بد من التذكير ببعض أهداف المؤاخاة التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه و آله) حيث آخى بين الصحابة ولكن مؤاخاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليست اعتباطية، يعني لا يؤاخي بين اثنين كيفما اتفق، وإنما يختار كل واحد ومن ينفعه ومن يتلائم معه. يكفينا أنه آخى بين الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وبين نفسه، وذلك لأن هناك انسجام وتوافق وتماثل، وفائدة واستفادة.

لقد آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين سلمان وأبي ذر لمنفعة كل منهما للآخر، فأوصى سلمان أن يتلطف بأبي ذر وأوصى أبا ذر أن يُطيع سلمان، فسلمان أعلى مرتبة من أبي ذر. لاحظوا غضَبَ سلمان غضبًا شديدًا من هذا الفعل البسيط الصادر من أبي ذر.

علينا أن لا ننسى الهدف من ذكر هذه الحكاية وهو التأمل في مراتب تخليق الله عزّ وجل للأشياء، هنا لن نتكلم عن خلق الله لأنوار النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، وكيف كان في العرش وماقبل العرش ومراتب الأنوار، هذا كلام طويل جَلل يحتاج إلى فسحة كبيرة، بل سنكتفي بما كشفه لنا سلمان عن بُدُوّ خلق الله في قرصي خبز لرغيفي شعير.

«فغضبَ سلمانُ من ذلك غضبًا شديدًا ثم قال: ما أجرأك حيثُ تُقلّبُ هذين الرّغيفينِ فواللَّه لَقد عملَ في هذا الخبز الماءُ الّذى تحتَ العرشِ، وعَملتْ فيه الملائكةُ حتّى ألقوهُ إلى الريح، وعَملتْ فيه الريح حتّى ألقتهُ إلى السّحابِ، وَعَملَ فيه السّحابُ حتّى أمطرهُ إلى الأرض، وعملَ فيه الرّعدُ والبرقُ وَالملائكةُ حتّى وضعوهُ مَواضعهُ، وَعَملتْ فيه الأرضُ وَالخَشبُ وَالحديدُ والبهائم والنّار والحطبُ وَالملحُ وما لا أُحصيه أكثرُ، فكيفَ لكَ أنْ تقومَ بهذا الشّكر؟!».

 لقد تابع سلمان تنقلات وأحوال هذيين القرصيين منذ أن عمل فيهما ملائكة السماء والماء تحت العرش حتى بلغ إلى الأرض وهذه الأسباب الكثيرة!.

مراحل بدء خلق الإنسان:

لنتأمل في خلق الإنسان هذا الموجود المُعقَّد الغريب!، أغرب مافي هذا الكون هو الإنسان. هذا الكائن البسيط المعقد في ذاته -كيف نجمع بين بساطته وتعقيده، ليس هذا محل بحثنا- بحثنا هو أنّ هذا الإنسان أيضًا لم يُخلق دفعة واحدة بل طوى مراحل منها: عوالم الفطرة والذر والميثاق، ... عوالم كثيرة، عملت فينا الملائكة والسماء حتى وصلنا إلى المرحلة الأخيرة في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات؛ بل يكفي أنه في أواخر مراحل وجودنا أي في هذه المرحلة الأرضية عندما كنا حُويمنات وخلايا حية فإنّ هناك ملايين –هذا واقع وليس من باب المبالغة- المعادلات لكي يتشكل هذا الجسم السويّ الجميل اللطيف، هذا ما يسمى بالشفرة الوراثية التي هي في حالة تفاعل مستمر، وقد كشفت لنا العلوم الكثير من غرائب وعجائب خلقة الله في هذه المراحل المتأخرة فقط، أما في مراحل السماء ومراحل المشيئة الإلهية والإرادة والحب هذا كله لا تتكلم عنه العلوم.

2/ التشابه والإختلاف بين العوْد والبدء في العالم الإنساني:

إذًا لقد مرّ الإنسان في مراتب وعوالم من التخليق المعقَّد الطويل المُعجِز الإلهي الغريب الممتلئ بالأسرار، وله عودٌ مُشابِه للبدء: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون. إنّ العَود نفس البدء من حيث المراتب أولًا، ومن حيث أسرار كل مرتبة من المراتب ثانيًا. إنّ البدء ينطوي على كثير من الحقائق والأسرار والمكنونات الإلهية، وكذلك العود.

إلا أنّ العود حركة اختيارية وإرادية، البدء فعلٌ إلهي ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ من هو فاعل البدء؟ الله جل وعلا هو الذي بدأ، نحن لم يكن لنا اختيار في البدء، لكن العَود ليس كذلك، لم تقل الآية كما بدأكم أعادكم؟! بل ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون، العَود منكم، أنتم تعودون!، طبعا البدء والعود منه وإليه وهو الفاعل في كل شيء، ولكن الآية هكذا: البدء منه والعَوْد منكم. 

وبما أنّ العوْد يصطبغ بما يختاره الإنسان فالناس في قوس الصعود على فريقين ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ العود سوف يصبغنا بالصبغة التي نختارها، وسوف يجعلنا فريقين وليس فريقًا واحدًا، وإن كنا في البدء نحن فريقان أيضًا، وهذا من بدائع مالتفت إليه السيد العلامة الطباطبائي (رضوان الله تعالى عليه): في البدء نحن فريقان، وفي العود فريقان.

3/ الدعاء هو انطلاقة الإنسان في رحلة العَوْد إلى الله:

عندما نعود عودًا سليمًا، سوف تتكشف لنا أسرار هذا الكون من سرّ القدر والقضاء وسر الإرادة الإلهية وسر اختيار الإنسان؛ بل سوف تنكشف لنا مكنونات هذا الكون، كله في حال العود، ولكن كيف نعود عودًا سليمًا كما يقول الإمام العسكري (عليه السلام): (الوصول إلى الله سفرٌ لا يدرك إلا بامتطاء الليل) كما أنّ السفر يحتاج إلى بذل جهد وطي مراحل متعددة متتالية كذلك الوصول إلى الله لا يُدرك إلا بامتطاء الليل، ماهو امتطاء الليل؟ يعني قيام الليل، والدعاء والتوجه إلى الله، والدعاء هو مخّ العبادة بل مخّ العروج والرجوع إلى الله، إنّ الوصول إلى الله -من حيث ابتدأنا الله- ينطلق بالدعاء، الدعاء هو سلاح المؤمن، الدعاء هو مطيَّة المؤمن.

ونحن نعيش في هذه الأشهر المباركة، أشهر الدعاء شهر رجب، تأملوا في الأدعية الرجبية، كم تُثير في النفس حالات روحية شفافة ورقيقة مثل حالة الأمل وحالة الرجاء، والتوبة والأوبة والإنابة، وهذه كلها حيثيات تصف رجوع الإنسان إلى الله عز وجل.

يُستفاد من الآية الكريمة أنه كما بدأَنا الله سوف نرجع إليه وهي عامة تشمل الجميع، الجميع سوف يرجع لله، لكن هناك مَن يرجع مفلحًا صالحًا وهناك مَن يرجع خائبًا طالحًا. مَن رجع بالدعاء رجع مُفلِحًا موفّقًا هاديًا، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ[3]، إنّ الجميع يكدح إلى ربه وسوف ينتهي به السير إليه عزّ وجل، نسأل الله أن يوفقنا إلى الكدح الذي يؤدي بنا إلى الفلاح.

ومن هنا فإننا في الأيام المقبلة إن شاء الله سوف نتحدث عن أسرار الدعاء وآدابه. الدعاء لا يعني أن تقرأ نصًا جامدًا بل له أسرار ومكنونات وحقائق وآداب وفنون. سوف نُشير إلى كل هذه الأمور وإلى معانيها إذا وُفِّقنا وإياكم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


[1] الأعراف / 29-30.

[2]  القمر/ 50.

[3]  الإنشقاق/ 6.

صور اخري

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني