هندسة النفس ومركزية المعتقد (9): مدارِج السّالِكين و روح المعرِفة

01-07-2022

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال عز من قائل في محكم كتابه الكريم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ)[1] صدق الله العلي العظيم.

كان مسار الحديث في الكلام عن الحركة البشرية في قوس النزول و قوس الصعود و قلنا أن في حركة الانسان التكاملية الصعودية الإكرامية الإلهية هناك مراحل و مقامات و مستويات و قلنا أن مادة الحركة التكاملية و وقودها هي العلم و المعرفة و تكلمنا عن بعض ما يرتبط بهذا المصطلح و هنا نريد أن نتكلم بشكل أكثر تفصيلي.

1/ تقسيمات العلم

عادة يقسّم العلماء العلم إلى تصوري و تصديقي، و يقصدون بالتصوري هو حصول صورة الأشياء في الذهن و التصديقي هو ما يستتبع من حالة من الركون و الميل النفسي، و يقسمون أيضاً العلم إلى حضوري و حصولي و يقصدون بالعلم الحصولي هو انعكاس صور الأشياء الخارجية على الذهن كمعرفتي بالأشياء الخارجية تصوراً أو تصديقاً، العلم الحصولي يستوعب التصورات و التصديقات فكلما أحيط به و تحيط به نفسي من أشياء خارجية بواسطة تلك التصورات الذهنية هي علوم حصولية، كعلمي بما حولي من أشياء خارجية و القوانين الطبيعية و علمي بما أستدل به و أُبرهن على وجوده من خلال البراهين العقلية سواء كانت تلك البراهين استقرائية قياسية تجريبية، كيفما كان، استكشاف ما في الخارج، عندما استكشفه من خلال الأدلة و البراهين، يسمى علماً حصولياً لأنه يحصل عندي صورة المعلومات الخارجية على نحوٍ من اليقين و الإطمئنان، و هناك علم حضوري، و هو حضور نفس المعلوم لدى العالِم مثل معرفة الانسان بما يخالجه من مشاعر و أحاسيس إحساسه بالجوع بالتعب بأنه موجود و أنه مفكر، هذه علوم ليست حصولية، ليس هناك أمر في الخارج تنعكس صورته على نفسي فيحصل لي صورة كاشفة عن وجود الشيء الخارجي سواء كان مفردا أو قضية مركبة، علمي بالشجرة و السيارة، علمك بوجودي و علمي بوجودك، استدلالي على أن القمر يدور و أن الكرة الأرضية دائرية، كل هذه الأمور تسمى علوم حصولية، علمي بمشاعري بأحاسيسي بوجودي بجوعي بعطشي تسمى علوم حضورية، هذا بالنسبة لتقسيمات المعارف و العلوم.

2/ مدارِج العلماء في معرفة الله

ولكن في ما نحن بصدده عندما تكلمنا بالأمس في الاستدلال على وجود الله عز و جل،  أولاً قلنا أن معرفة الله معرفة و ليس علم لأن العلم هو عبارة عن التصورات الكلية و المفاهيم المجردة أما المعرفة فهي إحاطة النفس بالوجودات الخارجية، وذكرنا أن هناك ثلاثة مناهج لمعرفة الله عز و جل الذي قلنا أنه أساس المعرفة و أساس الدين (أول الدين معرفته) معرفة الله تارة يقصد بها العلم بالله و الاستدلال بالقواعد العقلية على إثبات وجود الله هذه لا تخلق إلا صورة كلية في الذهن، و مهما كانت الاستدلالات العقلية قياسية كانت أو تجريبية كلها لا تعدو أن تكون حالة من التعامل مع الكثرات و الوجودات الخارجية لاستكشاف ما وراءها، فأوّلاً و بالذات النظر إلى هذه الوجودات المادية الخارجية المتكثرة لاستكشاف ما وراءها من الغيب فيبقى ما وراءها هو غيب غير معلوم و غير متعامل معه ثم هناك خطوة متقدمة أخرى و هي أنه و إن كنا نتعامل مع هذه الوجودات المتكثرة الخارجية و لكن بعد ترقيقها و تجفيفها للنظر من خلالها إلى ما وراءها فتصبح النظرة أكثر وضوحا، لأننا ننظر الى الوجودات الخارجية لكن نثقبها و ننظر إلى ما وراءها، ثم تأتي المرحلة الأتم و هو أن نجعل هذه المواد و الكثرات و الأعيان الخارجية شفافة جدا و رقيقة بل هي ليست لها لون ولا حاجبية و إنما ننظر من خلالها إلى ما وراءها فنحن ننظر أولا و بالذات إلى الواحد الأحد بل أنهم يقولون بعد أن نتعاطى مع الواحد الأحد مباشرة لا من خلال هذه الحجب، نرجع إلى الحجاب فنجد أنه معلول لذلك الواحد الأحد، نستدل بالواحد الأحد على الحجاب لا العكس، و هذا أيضاً خطوة أولى في الحقيقة و هو أن نجعل المنظور هو الله و من خلاله نستكشف وجود الموجودات و نتعاطى مع الموجودات بل هناك مرحلة متقدمة يتعاملون مع هذه الوحدة على أن تكون تلك الكثرات ليس لها وجود قائم بذاته و لا معلولية، بل تصبح في حالة من الضعف و الشفافية بحيث تكون مجرد شؤون الله عز و جل و آفاق لها، فلها نحو وجود و لكنه وجود ضعيف متعلق بالله عز و جل و لولا الله لما كان لها وجود كوجود الأشعة و الحرارة من النار و الشمس الحرارة موجودة في الخارج لكن تبعاً لوجود الشمس و النار مثلاً، بل يفترضون أن حالة التوحيد تصل إلى حد أن يرى الموحد هذه الكثرات ليست إلا تجليات و تمظهرات الحق جل و علا فالموجود في الخارج هو الله فقط و هذه الكثرات التي نراها و نلمسها، هذه العظمة كلها تجليات الله عز وجل، يأتون برواية أنه (كان الله و لم يكن معه شيء) و هو الآن كما كان، ما الذي استجد؟!، يقلون كل ما في الكون وهمٌ أو خيال، كل ما تراه مجرد تمظهرات للواجب جل و علا يعني بالضبط عكس المبنى الأول الذي يتعامل أولاً و بالذات مع الموجودات الخارجية و يدَّعون أن هذه هي قمة التوحيد، هذه وجهات النظر الموجودة في التوحيد  و نريد أن نجعل منها توطئة لنعود إلى مساق حديثنا في ما يرتبط بالانسان و تكامله و الفطرة و الميثاق، هذه التنزلات و ارتباطها بانبثاق الأرواح التي تكلمنا عنها روح الإيمان و روح القدس، و قلنا أن من كان ينطوي على روح القدس، بها عرف الأشياء، و من عرف هذه الحقيقة عرف كل شيء، و من لم يعرفها لم يعرف شيء، هذا نص الروايات، لاحظوا القرآن الكريم عندما يقول في حق الرسول صلى الله عليه وآله (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ)، هناك تتحقق الرؤية حقيقة المعرفة.

3/ حقيقة معرفة الله في سيرة المعصومين عليهم السلام

يسأل الإمام الصادقعليه السلام عن الميثاق و أنه متى حصل هذا الحدث و كيف، هل نحن نتذكره أولا؟ هل هو أمر عياني أو افتراضي؟ فيقول (أثبت المعرفة في قلوبهم و نسوا الموقف و سيذكرونه و لولا ذلك لم يدر أحدٌ من خالقه ورازقه) لولا أن الله جل وعلا زرع في أعماقنا منذ عالم الذر أوجدنا منطوين على حقيقة معرفة الله لما كنا نستطيع أن نعرف الله في هذه المرحلة، الأدلة البرهانية لا توصلنا إلى معرفة تركن إليها النفس و تطمئن بها الروح و يتلذذ بها الوجدان، المسألة تحتاج الى بعض الشفافية و الرقّة، لاحظوا هذه الرواية جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال له يا ابن رسول الله دلّني على الله، فقد أكثر عليّ المجادلون و حيّروني، كل ما أجيب دليل يجيبون دليل الى أنه ما عاد لدي سكينة و اطمئنان بوجود الله عز و جل أين الله عز وجل؟ إذا كان هناك إله موجود لماذا هذا الفساد لماذا غلبة أهل الظلم؟ كثير من الناس تثور عندهم حالة من القلق و الإضطراب و الشك في وجود الله عز و جل، هنا ليس السبيل الصحيح في إثبات وجود الله ليس من الصحيح أن نأتي بالبراهين والحجج العقلية لأن المنطق العقلي مهما كان دقيقاً واضحاً جلياً فإنه لا يعالج هذه الخوالج الروحية، لا يجعل من الانسان يعرف الله عز و جل، و إلا لاكتفى الانسان بكل هذه البراهين و الآيات الإلهية هذا النظم و الجمال و الإبداع الكوني و الجلال، كل هذه براهين على وجود الله لكنها لا تحمي القلب من هذه الوساوس، ما الذي يحمينا؟ هو الرجوع إلى الفطرة في أعماقنا، لاحظوا الإمام عليه السلام لم يُورد له استدلالاً منطقيا بل قال له يا عبد الله هل ركبت سفينة قط قال نعم قال هل كُسرت بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك، يعني انغلقت أمامك أسباب النجاة، هنا المسألة ليست برهانية بل هي وجدانية، أ لم تمر علينا أنواع من الحالات بحيث انغلقت علينا كل أسباب النجاة مع ذلك نجد في أعماقنا تثار حالة أمل و تعلق بالله عز و جل يقول له الإمام عليه السلام هل كُسرت بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك قال نعم قال فهل تعلق قلبك هناك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك قال نعم قال الصادق عليه السلام فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، هذه الإثارة الروحية من الإمام الصادق عليه السلام لمشاعر هذا الانسان هي تثير عنده حالة معرفة بالله، حقيقة معرفة الله هو أن تتطلع بأعماقك بوجدانك إلى من ينجيك حيث لا منجى، إلى من يعطيك حيث لا معطي ، و هذه المسألة روحية شعورية فطرية، هناك رواية أخرى لا تخلو من طول نقرأ منها محل الشاهد، نقرأها بشكل سريع و نصي، هذه الرواية موجودة في أكثر من مصدر، عن عبدالرحمن بن محمد بن أبي هاشم عن أحمد بن محسن الميثمي، قال: كنت عند أبي منصور المتطبب، فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبدالله بن المقفع في المسجد الحرام؛ هؤلاء أشخاص عُرفوا بالإلحاد و التشكيك في وجود الله عز وجل، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق؟ وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد اوجب له اسم الانسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعنى جعفر بن محمد عليهما السلام - فأما الباقون فرُعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ لماذا استثنيت هذا الشيخ دونه من هذه الشتيمة العامّة؟، قال: لاني رأيت عنده ما لم أرعندهم، فقال ابن أبي - العوجاء: ما بد من اختبار ما قلت فيه منه، فقال له ابن المقفع: لاتفعل، فإني أخاف أن يُفسد عليك ما في يدك،حتى عقيدتك التي في يدك من الإلحاد سيفسدها عليك، فقال: ليس ذا رأيك، ولكنك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفت، يعني سوف أُثبت لك أن كلامك ليس بصحيح، فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت على هذا فقم إليه، وتحفظ ما استطعت من الزلل، ولاتثن عنانك إلى استرسال يُسلِمك إلى عقال، وسِمه مالك أو عليك، يعني كن صادقاً معه لأنه سيتكلم معك بصدق، قال: فقام ابن أبي العوجاء، و بقيت أنا وابن المقفع، فرجع إلينا، فقال: يا ابن المقفع ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحانيٌ يتجسد إذا شاء ظاهراً ويتروح إذا شاء باطنا فهو هذا، هذا كأنه يأتي و يطوف مع البشر و ليس منهم هو من صنف الملائكة، فقال له: وكيف ذاك؟ فقال: جلست إليه، فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: «إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا وعطبتم وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم أنتم وهم، فقلت له: يرحمك الله وأي شيء نقول وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحداً، هذا أولاً كذاب و أيضاً جبان لأنه جاء يناقش الإمام عليه السلام، قال: فكيف يكون قولك وقولهم واحداً وهم يقولون: إن لهم معاداً وثواباً و عقاباً، ويدينون بأن للسماء إلها وأنها عمران وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد. قال: فاغتنمتُها منه فقلت له: مامنعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه و يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان ولم احتجب عنهم وأرسل اليهم الرسل؟ ! ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به، فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشْؤُك ولم تكن وكبرك بعد صغرك، وقوَّتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك، وسَقَمك بعد صِحّتك، وصِحّتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبِّك بعد بغضك وبغضك بعد حبِّك، وعزمك بعد إبائك، وإبائك بعد عزمك وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك»، وما زال يعدُّ عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه. معرفة الله المسألة ليست بالبراهين و الحجج لاحظوا كيف أن الإمام الصادق عليه السلام أثار ما في نفس هذا الانسان، كيف تقول أنه احتجب و قد أراك قدرته في نفسك!، أ لا تلمس يد الله فيك كيف صنعك كيف خلقك؟! كل هذه التقلبات أنت لست الذي تصنعها بل هي يد الله فيك، و لازال يبين له الإمام الصادق عليه السلام حركة التدبير الإلهي التي هي في عمقه حتى قال ظننت أن الله سيظهر في ما بيني و بينه، ليس هو فقط ظاهر و حاضرو ليس فقط هو قريب بل هو أقرب مني حتى من هذا الذي يخاطبني، هذا ليس استدلالاً إنياً فلسفياً بل هو استثارة لمشاعر الفطرة و ما ينطوي عليه وجدانك و هذا الذي يحقق المعرفة، حقيقة المعرفة هي أن تحيط النفس بما في أعماقها من فطرة وإدراك و هنا تتحقق المعرفة بالله عز و جل و لا سبيل للمعرفة إلا بمعرفة الله أولا و بالذات و كل ما بعد ذلك من معارف إنما هو ناتج عن هذه المعرفة و هذا ما سيتضح في ما يأتي و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آل بيته الطيبين الطاهرين.

 

 

 


[1]  النجم/ 1-12.

الأوسمة

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني