هندسة النفس ومركزية المعتقد (7): الهجرة إلى الله و الأسفار الأربعة

01-07-2022

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال عز من قائل في محكم كتابه الكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[1].

في سلسلة الحركة الوجودية للانسان بعد أن طوى مراحل ذكرناها في عملية النزول و التهيؤ للاستقرار في الأرض الى حين، هذه المرحلة التي سمّيناها بالاستخلاف، تبدأ الحركة الصعودية و الترقي، هذه الحركة هي حركة إكراميّة و حركة حُبيَّة و تقديريّة للانسان، لكن كما ذكرنا بالأمس أن هذه الحركة وجدانية واقعية يعني أن الانسان يطوي فيها مراحل تتفتح و تتفجر في أعماقه أرواح و أحوال و ذكرنا بالأمس الرواية التي تكلمت عن الأرواح الخمسة، و الروايات التي تحدثت عن ذلك هي تختلف في التسميات و لكنها تشترك في المضمون، حيث في البدء هناك روح البدن ثم روح الشهوة ثم روح القوّة ثم روح الإيمان ثم روح القدس، الخطوات الثلاثة الأولى غريزية، حال الانسان فيها هو حال بقية الموجودات هو يطويها طياً غريزياً لا اختيار له فيها و هذا ما ندركه بوجداناتنا، كنا يوماً ما أشبه ما نكون بالنبتة عندما كنّا حويمِنات أو قبل ذلك ليس لنا من الأمر إلا أننا نتغذى و ننمو و قد نتكاثر ثم بعد ذلك عندما نترقى و تتفتَّق فينا روح جديدة روح حيوانية تسميها الروايات روح الشهوة، نبدأ نشعر بالحركة الإرادية، لاتزال في دائرة الغريزة أيضا ثم بعدها ندخل في روح القوة و هي أشبه بما ندركه من حالة الطفل الصغير ذو الأشهر الأولى و لعله إلى سنة لا يعدُو أن يكون حيواناً صغيراً ليس عنده إرادة واعية و تقدير للأمور، واضح أن هذه الحركة جبرية، لا نستطيع إيقافها و لا لنا خيار فيها، لكن في ما يلي ذلك ستكون الحركة واعية إيمانية و لذلك اخترنا هذا العنوان إدراك (هندسة الانسان و مركزيّة المُعتقَد)، من هنا تبدأ الاعتقادات و التصورات و الإيمان و الإرادة و هذا الذي سمّيناه بالميثاق، بعد أن ابتدأت الفطرة و أخذت في النماء، ابتدأ الآن أخذ الميثاق في اختيار الجنة و اختيار النار، هناك أيضا عناصر أخرى سوف نشير إليها في الأيام القادمة إن شاء الله لكن هذه الخطوات التالية روح الإيمان و روح القدس تحتاج إلى عقيدة و اختيار و إيمان و علم.

1/ تكريم الله عز و جلّ للانسان بالهجرة إليه

القرآن الكريم أيضاً يقول: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[2] هذه الحركة و التكريم تحتاج منك إلى كدح و بذل جهد، في الروايات أن لله سبحانه و تعالى عناية خاصة بالانسان تقودُه، هناك هداية عامة و خاصة و إرشاد و هناك أنبياء، إذن هناك ما يعِين النبوة الداخلية التي هي العقل و الفطرة و الميثاق، هناك أسباب خارجية تضاف على ما أُعطي الانسان من أسلحة و استعدادات و تهيئة! لم يُكتفى بهذا المقدار من الإنارة و الرشاد بل أُعطي الانسان من النِّعم و الإفضال و الهدايات لكي يتحرك في هذا الاتجاه، بعض العلماء يفسر الآية (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[3] ظاهر هذه الآية تتكلم عن الهجرة التي كان يمارسها المسلمون في بداية الحركة الإسلامية بأن يهاجروا من ديار الكفر إلى ديار الإسلام و لكنهم يرجعون إلى ملاك المسألة و أن ملاكها هو أن الانسان إذا يهاجر مدينة البدن و يتجاوز مقتضى الغريزة و يتحرك حركة وجدانية روحية، و هذا يحتاج إلى رياضة و جهد و كدح لا يتأتَّى بالهُون و اللين و السلاسة (و من يهاجر في سبيل الله)؛ يتحرك في هذا الطريق و في هذا السبيل (يجد في الأرض مراغما) السبل متاحة و مفتوحة و الرشاد مهيّأ و معدّ، هناك ثم (يدركه الموت) يعني يسير في هذا الاتجاه إلى أن يصل إلى مراده و مات (فقد وقع أجره على الله).

2/ الهجرة لله في كلام الفلاسفة

لهذه الحركة أقسام عند علماء الأخلاق و أيضاً الصوفية، و الروايات تشير إلى الواقع التكويني الذي نتج من هذه الحركة من أرواح تضاف إلى ما عند الانسان من روح، تنمو عنده روح الإيمان و لو كان جاداً مثابرا يدخل في عالم تسمِّيه الروايات روح القدس، و للفلاسفة تقسيم لهذه الحركة أيضاً، و لعلّه كثيراً منّا سمع باصطلاح (الأسفار الأربعة)، يقولون أمام الانسان مراحل أربع ليطوي هذه الحركة، المرحلة الأولى هي السفر و الهجرة من الخلق إلى الحق، بأن يقطع كل وشائج الارتباط بهذا العالم و القيود التي تشده إلى أرض المادة، و هذا ما نمارسه نحن في الصيام و الصلاة، بمقدار ما نحقق أغراضها نحن نقطع حالة الارتباط بالأرض و الماديات، أبداننا التي عاشت فترة طويلة و هي تسير في ضمن احتياجات الغريزة نشكرها و نُثني عليها بأن أعطتنا الصحة و القوّة، الغريزة تهيّء لنا هذه الأمور و لكن يجب أن لا نتعبد بها و إنما يجب أن نعطيها هذا المقدار من الحدّ ثم نتحرر منها، و نسافر عنها من عالم الخلق!، عالم الخلق أعم من عالم البدن و المجتمع إلى عالم الحق و عالم الغيب و الملائكة و الأنوار، هذه هي المرحلة الأولى.

ثم تعقُبها سفر آخر، عندما نذهب إلى تلك العوالم سوف نتفاجأ أنها عوالم وسيعة كبيرة و نحن لسنا إلا هباءة و ذرَّة بسيطة في هذه العوالم، و سوف نقوم بعملية سفر في هذه العوالم وهو السفر في  عالم الحق بالحق في الحق يعني في البدء نحن نبقى ملوَّثين مقيَّدين في عقولنا و إدراكاتنا و مشاعرنا بقيود العالم الأرضي المحدود المقيَّد بالزمان و المكان و لكن عندما نخرج إلى ذلك العالم نحتاج أن نطوي مراحل طويلة من السفر كأنما نغتسل و كأنما ندخل في فلترات بعد فلترات و في تنقية بعد تنقية، كل هذه المراحل تسمى مرحلة السفر في الحق و إلى الحق بالحق أي بعناية الله، هنا لديهم مصطلحات أن حالة الانسان هي حالة التجرد و الذوبان تليها حالة انقطاع تامّ و العشق و المحبة في الله، إذن السفر الأول هو من الخلق إلى الحق، السفر الثاني هو من الحق إلى الحق و لكن بالحق، في قمة السفر الثاني سوف ترجع لنا ما كان يعيشه أبونا آدم عليه السلام في عالم الجنة و في عالم رغد العيش، من يعيش هذه الحالة سوف يتلذذ بالإنقطاع إلى الله و الأنس به و الإطمئنان إلى الله حتى يكاد أن لا يرغب أن يعود، كما أن آدم عندما هبط للأرض كان يبكي على تلك الحالة كذلك الانسان عندما يتلذذ بالارتباط بالله و الأنس به و الإطمئنان و الارتباط بالقوة المطلقة اللانهائية يجد فيها الانسان حالة من الأُنس و السكينة، يقال أن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما يصلي في جوف الليل يطلب من بعض نسائه أنه إذا انقطعتُ فحركي قدمي و إلا لا أرجع إليكم! روحه صلى الله عليه وآله عندما تتعالى و يعيش في ذلك العالم قد لا يشعر ولا يلتفت؛ بل أنه يجد معاناة في أن يرجع إلى هذا العالم وإلى معادلته.

 لكن في خصوصية الرسول صلى الله عليه وآله و الأولياء الذين رجعوا إلى الخلق بعد أن انقطعوا إلى الحق هم النعمة العظمى على الانسانية، هم الرحمة الواسعة للانسانية بأن يرجعوا إلى الخلق بما أخذوه من جذبة إلهية و عيش إلهي و نعيم رباني ثم يرجعون إلى هذا العالم عالم الخلق، وهذا السفر الثالث من الحق إلى الخلق هذا الرجوع يترتب عليه شيء يحتاج دقة، و هو السفر الرابع السفر الى الخلق بالحق، نحن اليوم نعيش مع هذا الخلق و يهمنا أوضاعه و معادلاته الاجتماعية و الأسرية و الشخصية في واقعنا الاقتصادي و المأكل و المشرب، ككل الناس هكذا يعيشون و لكن عندما ننهل من منطق الحق و النور و الوعي و الإدراك و نرجع إلى الخلق فإننا لا نعيش كما كنا نعيش في السابق بل سوف نأتي بمنطقنا الجديد و بوعيٍ جديد، سوف ننظر إلى الأمور بنظرة تختلف عما كنا في السابق، كنّا ننظر إلى هذا العالم و قواه و معادلاته و أسبابه و مسبباته ننظر إليها بإكبار و تقدير و نقف عندها لا نتجاوزها إلى ما وراءها ولكن عندما نأتي من ذلك العالم سوف تتغير نظرتنا للأمور، و لكي نفهم هذا المعنى لنلاحظ مسلك الرسول صلى الله عليه وآله و مسلك أمير المؤمنين غليه السلام، عندما يتعاملان مع هذه العالم هما لا يتعاملان معه كما نتعامل نحن، تقييمهما للأمور يختلف، ميزانهما معيارهما مشاعرهما تختلف، علي بن أبي طالب عليه السلام كما يُنسب إليه يقول هذا المعنى أنه لا يفرق عندي العرب كلهم معي أو العرب كلهم ضدّي! هو يحارب و يجاهد و يأخذ بالأسباب، هو يأكل و يشرب و يمارس الحياة كما نمارسها بالأخذ بالأسباب الطبيعية و لكن هو قد جاء من الحق و يسير بقيم الحق في الخلق،  هذه هي الهداية و النور و الرشاد و الجواذب إلى الله عز و جل، هذه هي في الحقيقة قمّة الكمال البشري، أن يكون إلهياً في وسط البشر، في هذه الأرض، هذا هو الأقدر على زراعة الأرض و ربط السماء بالأرض، يصبح هذا الموجود الناضج الكامل الذي كل الخلقية و كل الوجود زُرع و وُجد من أجل هكذا موجود، عندما يسير هذا الموجود على الأرض فهو إلهيٌ في طبعه و في تقديراته، إلهي في ميزانه و معاييره، يزن الأمور بميزان أخروي، يعيش الآخرة و هو في الدنيا، يعيش قِيم الآخرة في الدنيا.

3/ منطلق الحركة التكاملية الانسانية

هناك نقطة أخيرة أختم بها أن هذه المراحل الأربعة تبدأ من الروح الثالثة لأن الروح الأولى و الثانية و بداية الثالثة تقريباً هي حركة غريزية لا اختيار للانسان فيها، لأنها حركة غريزية، لاحظوا الطفل الرضيع عندما يلتقم ثدي أمّه ليرضع، من الذي علّمه؟ كيف اهتدى إلى هذا السلوك؟ حاله حال بقية الحيوانات تهتدي إلى مصالحها بغريزية عفوية تماماً، كيف يحرك بدنه و يفرز الزوائد يشعر بألم و يشعر بأن عنده قدرة على إفرازها فيبكي طلباً لإخراجها و يفعل ذلك بعفوية، لا يتوقف على تعليم و إرشاد، لكن أن يتحرك حركة هجرية يهاجر إلى الله هذا يحتاج إلى قرار و عقيدة و جهد و بذل.

4/ حقيقة الأسفار الأربعة

النقطة الثانية أن هذه الحركات الأربع و الأسفار الأربعة ليست هي حركات متتالية 100% و إن كان عنصره الزماني، و إن كان للانسان سوف يتعبّد بالبُعد الزماني؛ أي أن للزمان مدخلية في هذه الحركة و لكنها ليست حركة زمانية متتالية هندسية بل هو في الوقت الذي هاجر فيه الخلق إلى الحق تبدأ تنمو عنده حالة من السلوك في الحق و لكنها حالة بدائية بسيطة بمقدار ما يتشبث بمعادلة الخلق، و بمقدار ما تجذبه جواذب الخلق سوف يكون سفره إلى الحق بطيئاً و سوف تكون حركته في الحق بدائية و بسيطة و ضعيفة، عندما يتجرد من جواذب الخلق و ينقطع إلى الحق و يبدأ يعيش في هذه العوالم النورانية، هو بالإجمال يتمتع بعالم الغيب و عالم الإنقطاع إلى الحق و لكنه في نفس الوقت ينظر عن بُعد يلتفت إلى البعد الثالث و هو أنه ينظر إلى الخلق لكنه منقطع مستمتع مبتهج كما يعبِّرون في كتبهم الفلسفية مبتهج في الارتباط بالله عز و جل، لكنه عندما تنضج عنده حالة الارتباط بالله و تمام العلاقة بالله حتى يذوب في الله و يفنى في الله -كما يعبّرون-، هناك يجد نفسه أنه يجب أن يرجع إلى عالم الخلق، و عندما يرجع تبدأ عنده المرحلة الرابعة و لعله من المرحلة الأولى تبدأ!، أشبه ما يكون بحركة الجنين في بطن أمّه هو من البداية يتشكل كاملاً منطوياً في هذا الحويمن الصغير و في هذه البويضة لكن عندما تبدأ تنضج تبدأ تتكامل في عرض بعضها، نعم! بعضها يسبق البعض في البروز و التكامل لكنها موجودة منطوية في بعض.

خلاصة هذا الكلام أن الانسان عندما يتنزل و يطوي هذه المراحل فإنها تعدّه و تسويه و تخلقه لكي يوجد في عالم الأرض، ثم في عالم الأرض أيضاً يكون قد أُعدّ و هيّئ لكي ينطلق منه إلى عالم الكمال و العزة و الاختيار الإلهي و عالم الكرامة كما تعبر الآية (و لقد كرمنا بني آدم) هذه المراحل و هذا الطي ليست عملية مادية أو افتراضية بل هي واقعية خارجية تترتب عليها أمور واقعية و تفجُّرات في واقع الانسان قد يموت الانسان و هو ليس إلا حيوان -أعزكم الله- لاتوجد فيه روح انسانية و لا روح قدسية و لا إيمانية لأن الدنيا تدور بالانسان و هو مكانه لا يتحرك لا ينمو في أعماقه، يصبح عمره أربعين خمسين ستين سنة و هو في حقيقته فقط بدنه نما و نضج أما روحه لا تزال مثل روح الطفل، هذه الحركة تخلق عنده حياة و نشاط و تتولد عنده هذه الأرواح التي ذكرناها، روح الإيمان و القدس و غيرها، هذه الحركات يجب أن تكون خلال هذه المظاهر الأربعة التي سماها العلماء الأسفار الأربعة حيث تتكامل مِرّته و وجدانه و أعماقه.

هناك عناصر مؤثرة في سرعة هذه الحركة بل مر علينا في رواية الأمس إشارة واضحة إلى خصوصية سنتناولها يوم غد إن شاء الله و هي التي تكون المادة الحاكمة في هذه الحركة، نكتفي بهذا المقدار و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آل بيته الطيبين الطاهرين.

 

 

 


[1]  الإسراء/70.

[2]  الإنشقاق/6.

[3]  النساء/ 100.

الأوسمة

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني