هندسة النفس ومركزية المعتقد (6): الكمال و معالِم المدارِج

01-07-2022

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

)وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ( الواقعة/ 7-11.

 

إنـــارة

كان حديثنا في تشكيل خريطة حركة الانسان في هذا الوجود، و تكلمنا عن أن الانسان في مراحل تنزّله إلى هذا العالم يطوي درجات ومراحل لتتهيأ له أسباب الاستخلاف الإلهي المقصود من أصل هذه الخليقة، فهذه المراحل التي يطويها الانسان تحقق له الأرضية التي تحقق عملية الاستخلاف بالنحو المقصود، هذا الاستخلاف يراد منه أن ينطلق فيه الانسان إلى مدارج الكمال إلى أن يبلغ أسمى المراتب الوجودية التي تحقق الهدف الإلهي الأسمى من إيجاد أجمل و أبهى و أحلى ما بالإمكان أن يكون، إن هذه الدرجات تحتاج أكثر تفصيل من مراحل النزول ؛ لأن تلك مراحل ناجزة و تامة و ليس لنا فيها كثير شأن، نحن خُلقنا مزروع فينا الفطرة و الميثاق و خُلقنا مهيئين لهذا الاستخلاف، و القرآن يذكر هذه المراحل ليكون الانسان على وعي من أمره، حيث أنّ كل هذه الملابسات تعطيه القدرة و كمال الوضوح في المشروع الإلهي الكوني الذي يراد من الانسان أن يحققه بعد هذه المراحل، هي مراحل الترقي و الصعود في مدارج الكمال.

1/ إشارات عامّة لمدارج الكمال

هذه الآية التي نحن بين أيديها، تتكلم عن مدارج الكمال، هي لا تتكلم عن تفاصيل هذا التقدم الكمالي و إنما تضع النتيجة، أن الانسان بالنتيجة سوف يكون على ثلاث مراتب، هناك مرتبة السابقون، أصحاب الميمنة، أصحاب المشئمة ثم تتصدى لاستعراض هذه الطوائف الثلاث، و لكنها لا تتحدث عن القضية بشكل مفصّل، نستعين هنا بما رواه الإمام الصادق عليه السلام  كما رواه جابر الجعفي «يا جابر إنّ الله خلق الناس ثلاثة أصناف، وهو قول الله تعالى: (وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) الإمام عليه السلام يريد أن يشير إلى مركزية هذه الآية في التصوير الذي يريد أن يكشفه عليه السلام ، ما يريد أن يقوله الإمام عليه السلام أن هذه الدرجات الثلاث لها تأصيل في عمق الواقع يقول فالسابقون هم رسل الله عليهم السلام ، وخاصّة الله من خلقه؛ هم النخبة المتميزون، بماذا هم متيمزون؟ بكثرة العمل؟ بطول العمر؟ لا، و إنما بواقع تكويني يغور في أعماقهم المسألة فيها مراتب وجودية، جعل فيهم خمسة أرواح: هذه الخمسة ليست متعددة و إنما مستويات هي روح واحدة و لكن ذات أُفق خماسي، أيّدهم بروح القدس، لأنه في مقام المنّ و التفضل يبدأ من الأعلى لا من الأسفل. لكي نعطي صورة واضحة عن مضمون الرواية نغلق الرواية الآن و نذكر مقدّمة.

2/ الفرق بين النفس النباتية و الحيوانية و الانسانية

نحن ندرك أن ما نراه في صقع الوجود ينقسم بين جماد و حيوان و نبات، النبات يمتاز عنهما بأنه يمتلك روح أو نفس، لكن يسمونها نفس نباتية يعني أنها قابلة للتغذي و التكاثر، نحن ندرك أن النبات يحتاج للغذاء فيبحث عن الغذاء و الماء في التربة و يمتص ما يفيده و ينمو و يكبر و يتكاثر، هذه هي النفس الأولى البسيطة ، أوائل بداية الحياة و هو أشبه حالاً من الجماد، هي حياة لكن بمستوى محدود، ثم تأتي الحياة الحيوانية و هو ما تضاف إلى حالة التغذية و التكاثر، الحركة و التصرف الإرادي، هو يتغذى لكن ليس كغذاء النبات و إنما هو يبحث عن غذائه و يختاره و لعله يفضّل البعض و يترك البعض و يتصرف بإرادته بحثاً عن الغذاء و التكاثر و يدخل في ضمن معادلة وجودية، لكنه في ذاته أشرف و أسمى من النبات فضلاً عن الجماد، فهو يصعد مرتبة تسمّى مرتبة الحياة الحيوانية ثم يأتي دور الانسان الذي هو أشرف و أسمى من الحيوان، لاحظوا الانسان فيه ما في النبات من التغذي و التكاثر، هو يريد و يطلب الغذاء، يطلبه لا كما النبات بل كما الحيوان يتحرك باختياره و إرادة، لكن لا يقف عند حد الروح الحيوانية و إنما يتسامى إلى حد الروح الانسانية بوعي و إدراك، الحيوان يتحرك ضمن دائرة الغريزة و النبات كذلك يتحرك ضمن دائرة الغريزة و هذا ما سميناه في الدروس الأولى بالفطرة بمعناها العام، كلنا مفطورون الجماد و النبات و الحيوان و الانسان، و إلى هذه المرتبة التي تعتبر الثالثة، لكنها لا تزال محصورة و محدودة بحركة غرائزية يعني كما أن النبات يتحرك بدافع غرائزي كذلك الحيوان، كذلك الانسان في هذه المرتبة من حركته و اختياره، فالطفل الصغير يتحرك بغرائزية يلتقم الثدي و يُفرز الزوائد بغرائزية، لا يحتاج إلى تعليم و تدريس، هو يتصرف بنحو غرائزي، نعم عندما تكبر و تنمو و تتحرك تحركاً ذاتياً، أشبه ما يكون بإعداد في المطبخ الداخلي، في أعماقه تنمو عنده نباتيته و حيوانيته و انسانيته.

و هذا ما تريد أن تشير إليه الرواية من المراحل الثلاث الأُول من الأرواح التي يُعطاها الموجود، لكن في مدارج تكامل الانسان هناك مراتب أعلى و أشرف تنصِّص عليها الرواية، يقول عليه السلام فالسابقون هم رسل الله عليهم السلام ، وخاصّة الله من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح:، هؤلاء فيهم الأرواح الثلاثة التي ذكرناها و روحين أخريين، هنا سيستعصي علينا فهم هاتين الروحين لأننا لم ندركهما كما ندرك ما هو دوننا من الأرواح نحن ندرك ما معنى التغذي لأننا نتغذى، ندرك ماذا يعني أن نتحرك بإرادتنا لأننا كذلك، ندرك معنى التفكر و التأمل لأننا نقوم به، لكن عندما يقال أن هناك روح رابعة و خامسة، أيّدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، هؤلاء المؤيدون بتأييد الله وأيّدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله وأيّدهم بروح القوّة فبه قدروا على طاعة الله، روح القوة التي هي الروح الانسانية هذه الروح ندرك شيئاً منها لأننا في هذه المرحلة الوجودية تشملنا شيئا منها بمستويات متفاوتة، وأيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المَدرَج الذي به يذهب الناس ويجيئون و هي الروح النباتية. هذه خمسة مراتب يترقّاها هؤلاء الذي هم خاصة الله، وجعل في المؤمنين، أصحاب الميمنة، روح الإيمان؛ إذن فاتنا روح القدس، جعل في المؤمنين روح الإيمان فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوّة فبه قدروا على الطاعة من الله. وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون، هؤلاء المؤمنون!، و بطبيعة الحال سوف نفهم أصحاب المشئمة كم فيهم من روح؟ ثلاث، روح المَدرَج و روح الشهوة و روح القوة و يفتقرون إلى روح الإيمان و روح القدس، لاحظوا الرواية دقيقة في التعبير، عندما عبّرت عن أصحاب الميمنة (وجعل في المؤمنين، أصحاب الميمنة، روح الإيمان... وجعل فيهم روح القوّة... وجعل فيهم روح الشهوة... وجعل فيهم روح المدرج) هذه جعولات، أما في أولياء الله الصالحين هناك أيدهم بروح القدس و الإيمان و روح القوة، يعني حتى روح القوة في السابقين هي على نحو التأييد، روح القوة في الجماعة الأولى قوتهم مسخّرة مجردة كلها تأييدية أما في المؤمنين أصحاب الميمنة فروح القوة فيهم على نحو الجعل قد تنفعهم في أحيان و تضرهم في أحايين كما هو واقعنا اليوم، نحن أعطينا الروح النباتية نتغذى و نتحرك على نحو الجعل و كذلك روح الحيوانية بل حتى الروح الانسانية هي فينا على نحو الجعل لا على نحو التأييد المطلق، بمعنى أنه قد تكون علينا في بعض الأحيان، نعم روح الإيمان إذا وُهبناها نُوهبها على نحو التأييد و البركة و العطاء.

3/ حقيقة مدارج الكمال الانساني

لاحظوا أخواني هذه الرواية عندما توزّع هذه الدرجات هناك من لديه خمسة مدارج النباتية و الحيوانية و الانسانية و روح الإيمان و روح القدس، في بعض الروايات أن هذه الروح لا تنام و لا تلهو، هذه الأرواح هي تكشف عن الانسان و حركته في هذا العالم لا تعتقدوا أن المسألة مسألة عبادة و صلاة و صيام و أكثر حسنات لا يفيدك أن تصلي  ألف ركعة و أنت لا تتحرك تحركاً كمالياً يكسبك روحاً جديدة، مجرد أن تعيش عيشة الحيوان و هَمّ الحيوان و قوة الحيوان، و لا تُحدِث صلةً و ارتباطاً خاصاً يُجري في أعماقك المدَد الإلهي الذي يتحول إلى هبة إلهية و تأييد إلهي يزرع في نفسك حالة إيمانية، سوف نتحدث بشكل تفصيلي عن هذه الحالة الإيمانية، ماذا يعني أن تكون هناك روح جديدة رابعة غير النبات و الحيوان و روح الانسان الأولية، روح الإيمان تنعكس على الانسان بمشاعر جديدة و أحاسيس جديدة و حياة جديدة و إدراكات جديدة و منطق جديد!، لا يعي هذا المعنى إلا من تذوّق في آنٍ مّا طعم حقيقة الإيمان و استراح إلى الإيمان و أحس به، هذا فضلاً عما لو وصلَت له شيء من مشاعر روح القدس التي هي روح خامسة و هبة خاصة و تأييد إلهي لأوليائه و خاصة رسله، هذه ليست مجرد أن نقول أن هذا الانسان أعلى طبقة و ندرك هذه الأمور كما ندرك اصطلاحاتنا التواضعية، نقول هذا أشرف، هذا ماله أكثر أو حتى عنده ثواب أكثر أو عنده طاعات أكثر، المسألة ليست مجرد تفاوت عددي، ليست مجرد صبغة ظاهرية هذا كل ما أريد أن أأكد عليه أن أصحاب الميمنة و السابقون السابقون، ليسوا أناس مثلنا لكن لهم حسنات أكثر، بل لهم وجودات و روح خامسة كأننا موتى في هذه الروح.

دفع شبهة

أريد أن أصل إلى هذه النقطة أننا عندما نقول أن علي بن ابي طالب و الأئمة عليهم السلام لهم قدرة في إدارة هذا الوجود و إدراكات خاصة و علوم فإن هذا ليس تدخلاً في الغيب و في شأن الله، بل هو منطق طبيعي تقتضيه طبيعة الأرواح و التكامل، كيف أننا أشرف حالاً من الحيوان لا بأننا نلبس لباس جيد بل لأن أرواحنا أشرف، و لدينا قدرات و إمكانيات نستطيع أن نفكر و نستنتج، نحن أرفع حالاً من الحيوان فضلا عن النبات فضلا عن الجماد، هذا الشرف و الرقي ليس أمراً اعتبارياً و شكلياً بل له آثار تكوينية و أُفُق و واقع خارجي، نقول هذا الكلام أيضا بالنسبة لأصحاب الميمنة و نفس هذا الكلام يقال في حق السابقون السابقون، هم ليسوا فقط مثلنا و لكنهم أكثر عِلماً أحاطوا بمعارف لم نحط بها، لا بل هم في وجوداتهم و في حقيقتهم هم ينطوون على أرواح لم نتذوقها و لم نحس بها و لذلك هذه الأرواح لا تنام لا تلهو فبها عرفوا الأشياء سوف نتحدث عن أن المعرفة هي سر كل هذا الترقي.

4/ معرفة الله: مبدأ الترقي في مدارج الكمال

معرفة الله بالخصوص هي مدارج هذا التكامل، هذا التكامل واقعي تكويني كما قلنا أنه في مدارج النزول تحققت أشياء في الواقع الخارجي سواء وُجد من يدركها أو لم ينوجد هناك أمور حقيقية تقررت في الواقع و جرت في لوح الواقع الخارجي، الله جل و علا أوجد هذا العالم بنحو من الإيجاد و جرى في هذا الإيجاد مراحل و إعداد و طبخ و صناعة، تارة يسميها بالميثاق و أخرى بالإنفطار و ثالثة بسجود الملائكة و رابعة بإدخال الجنة و خامسة بالإخراج من الجنة، هذه ليست أمورا تصويرية تقريبية و إنما هي حقائق تكوينية جرت في حاقّ الواقع كما أنّ هذا النزول كان يطوي مراحل خارجية تكوينية كذلك حالة الترقي و الصعود لا تقف بين يدي الله و تصلي ركعتين و قلبك مشتت هنا و هناك فتتصور أنك حصلت على ثواب و أجر، أصلاً معنى الثواب و الأجر هو بمقدار ما تنفعل روحك و تترقى روحك و تشعر أنت بأنك لمست شيء تذوقت طعم العلاقة بالله عز و جل، و لذلك إذا جعلنا هذا هو معيار القبول و الرفض يجب أن نحاسب أنفسنا على هذا الأساس، قد تُوفَّق بأن تقف بين الله ساعات و ساعات و تصلي وتتهجد لكنك في أعماق نفسك تدرك أنه لم تتفتح لك أفق التعاطي مع الله لم تشعر بحلاوة المناجاة لم تخرج من هذه الصلاة و هي تأمرك بالمعروف و تنهاك عن المنكر فهذه ليست بصلاة، هذه آداب و سلوكيات و أعراف لاقيمة لها في معايير الحركة الوجدانية و التكاملية أنت لم تخرج من روح الحيوان إلى روح الانسان لم تخرج من حالة روح الانسان المتوسطة إلى روح الإيمان لم تترقَّ في مراتب روح الإيمان إلى روح القدس، ما لم تشعر بهذا الحراك و هذا الترقي فأنت في الحقيقة لم تحقِّق الغرض من الحركة التكاملية و لم تترق مدارج الكمال.

نرجو من الله سبحانه و تعالى أن لا يحرمنا حقيقة العلاقة به و أن يوفّقنا و إياكم لعبادته حق عبادته و أن يأخذ بأيدينا إلى مدارج الكمال و الحمد لله ربِّ العالمين.

 

 

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني