هندسة النفس ومركزية المعتقد (4): معالم عوالم الوجود في قوس النزول (عالَم الإستخلاف (ج2))

01-07-2022

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين. استمراراً للأحاديث السابقة نقرأ هذه الآيات الكريمة التي تقول: )وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ([1] من الواضح أن هذه الآيات الكريمات تُتمِّم الخريطة العامّة التي ترسم حركة الانسان في تنزله في آفاق الوجود، تكلمت الآيات السابقة التي تعرّضنا لها إلى آفاق الفطرة و الميثاق و عملية الإستخلاف، هذه الآيات تتلو الآيات التي تكلمت عن الإستخلاف، فهي ترسم صورة واحدة متكاملة.

1/ إطلالة عامّة على الآيات

قبل الدخول في إعطاء المعنى المُجمل الذي تريد أن ترسمه مجموع هذه الآيات، نريد أن نتحدّث عن التفاصيل التي تعرَّضت له هذه الآيات بخصوصها يعني هذه الآيات تكلمت عن مرحلة الاستخلاف، قبل أن نرسم الصورة المُجملة المتكاملة، نريد فهم الظِّلال الذي تُحدِثه هذه الآيات، تقول (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ) أول ملاحظة أن الآيات السابقة تقول (و إذ قال ربُّك للملائكة) هناك أسهب القول و كأنما الخطاب للرسول 6 و الخطاب من الرَّب، قال ربك يا محمد،  وقلنا (إذ) ظرف زمان يحتاج إلى متعلَّق، يقولون متعلقه هو (و اذكر أننا قلنا الملائكة اسجدوا لآدم) السجود لآدم هل يخالف التوحيد و يؤدِّي إلى الشرك؟ السجود لآدم بما هوهو أو بما هو مظهَر لما وراءه أو بما هو طاعة لله، هناك تخريجات كثيرة لمعنى سجود الملائكة لآدم، ماذا يعني أن تسجد الملائكة لآدم؟ قيل أنها سجدت لما ينطوي عليه آدم من محمد و آله (، و بما أنه أمر من الله فلا يوقِع في الشرك و ما شابه ذلك، الآن نأخذ بالمقدار المتيقّن أن هناك أمرٌ من الله للملائكة بالسجود، فسجدوا و انقادوا و أطاعوا إلا إبليس! هذا الموجود الذي يصفه القرآن تارةً بإبليس و أخرى بالشيطان، هنا يصفه أنه إبليس و لهذه العناوين دلالة، ماذا جرى من إبليس (أبى) رفض، هذا أولاً؛ هناك استعصاء و تمرّد، لماذا هو يتمرد و يستعصي؟ ما علل التمرد، هل هو عن حجة أو عن غير حجة؟، الآن هناك تمرد (أبى) لماذا (واستكبر)، (وكان من الكافرين) يكفر بما هو واضح و جليّ، هو ليس ذو حجة و إنما عنده كفر و تغطية على الحقائق الواضحة. (وقلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة) في الآية التفات؛ أي أن الخطاب كان في مجرَى معيّن ثم يأتي إلتفات إلى جهة أخرى كأنما الفيلم الذي يعرِض مقطعاً و انتهى، الآن يعرض مقطعاً آخر فالخطاب من الله إلى آدم على نبينا و آله و عليه أفضل الصلاة و السلام،(وقلنا يا ادم اسكن أنت و زوجك الجنة) هذه الجنة أين تقع؟ في السماء الدنيا أو الآخرة؟ هل هي جنة الخلد أم غيرها؟ الكلام في أنك يا آدم ادخل الجنة بنحو من السُّكنى و الاستقرار والألفة و قلنا يا آدم اسكن، ادخلها دخولاً ساكناً هادئا تستقر أنت بتركيبتك هذه تتلاءم مع هذه الجنة، هذا معنى اسكن، اسكنها أنت وزوجك، إذن هناك هذه الزوجية، القرآن الكريم لم يشر إلى خلقة حواء سلام الله عليها كان يتكلم عن آدم و السجود له، ثم جاءت حواء في الصورة، (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ) ما هي خصوصية هذه الشجرة؟ لماذا جُعِلت شجرة في الجنة؟ هل هي شجرة حِنطة أم تفاح؟ من الذي بدأ بالأكل أولاً حواء أو آدم؟ هناك كلام كثير خلاصته أن هناك تحذير لأبينا آدم من الإقتراب و ليس من الأكل، و لا تقربا هذه الشجرة إذا قربتموها ستكونان من الظالمين، هناك يحصل لكما خلل يعبّر عنه القرآن بالظلم، يظلمان مَن؟ أنفسهما أم موجود آخر؟! فأزلَّهما الشيطان، كيف دخل لهما الشيطان و هما في الجنة، و كانا يأكلان رغداً و لماذا تركا كل هذا الرغد و ذهبا الى هذه الشجرة؟ هناك تساؤلات كثيرة ، كما ذكرنا البارحة أن الرازي يقول لو اجتمع الجِنّ و الإنس على أن يعالجوا هذه الاستفسارات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فعلاً هناك استفسارات و أسئلة! أما أنها هل تعالج أو لا؟!، فهذا أمرٌ آخر. (فأزلهما الشيطان) ، إبليس لم يسجد و هناك وصف أنه إبليس، أبى و استكبر الآن أصبح شيطانا فأزلهما الشيطان الذي هو إبليس و لكن بشيطنته أزلهما، الشيطنة بمعنى الخروج عن الحد، هذا الموجود خرج عن حدوده فسوّل لآدم و حواء فأزلهما أي جعلهما يزلاّن عن الشجرة، فأخرجهما مما كانا فيه، فخرجا عن ذلك المكان الهادئ بسبب إزلال الشيطان لهما، ثم يرجع الخطاب مرة أخرى (و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ)، الآية تقول (وقلنا اهبطوا) و ليس و قلنا اهبطا، هناك اسكن انت و زوجك، الخطاب لهما هنا الخطاب لهم، للشيطان معهم، انزلوا أنت و زوجك و الشيطان، اهبطوا من الجنة إلى أين؟ إلى الأرض، الأرض في هذه الحوارات لا يُقصد بها هذا الجرم السماوي و إنما إلى عالم الأرض؛ لأن الحديث هنا في عالم السماوات و الجنة، (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ) هناك كان سكن أما هنا فسوف تجدون نحو من الاستقرار، الأرض مهيئة و مرتبة بحيث تستطيعون أن تستقرون و تتمتعون إلى حين، (مستقر و متاع) وقت معلوم، هنا تاب آدم (فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ)، ما هي هذه الكلمات؟ هل هي أسماء الأئمة أو أمر آخر؟ يقال أن آدم رفع رأسه رفع رأسه فرأى أسماء الأئمة فسأل الله بحق هذه الأنوار فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم. جاء الخطاب النهائي (قلنا اهبطوا منها جميعاً) هناك عمليّة هبوط، لاحظوا لنعطي صورة مجملة عن الهبوط عندما نلاحظ الكرة الأرضية و نتصور علوّ السماء يعني كان آدم و حوّاء في مرتبة عُليا، نحن ننظر إلى السماء بعنوانها فوق، و الهبوط إلى الأرض صحيح؟ و لكن تعال و اخرج من المجرَّة الشمسية، أين العلو و الدُنُو و الوسط؟ لا يوجد شيء، الكرة الأرضية جرم صغير جداً من دائرة ليس لها شمال و جنوب و شرق و غرب و علُوّ و دنُوّ، إذن المقصود من الهبوط هو أن هناك مرتبة عالية يحصل منها نزول، إذن القاعدة التي سوف تجري بعد هذا الهبوط الجماعي أنه سيكون هناك عداء (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

2/ هل خُلق آدم عليه السلام للبقاء في الجنّة؟

هذه الآيات لاتزال في إعطاء الصورة العامة لحركة الانسان و كيف أنّ الله جل و علا خلق الانسان مفطوراً في ضمن قواعد معيّنة يتحرك في ضمنها، و أخذ عليه الميثاق و أنزله إلى الأرض وحصلت له هذه المقدمات قبل الهبوط، السؤال الذي يلحّ على الذهن هو أنه هل أن آدم خلق لهذه الأرض أو أن الأصل أن يبقى في الجنة؟ و نزوله الى الأرض كانت زلّة قدم و خلل حصل منه؟ (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)[2] ، (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ)[3] ، إذن الأرض هي أصلنا منها و فيها و إليها نحن نعيش، ليس هناك خلل، و هذا الترتُّب و الحركة تريد أن تعطي هذه الصورة أن الانسان في تنزّله في هذه العوالم يحتاج إلى أن يعبُر هذه المرحلة، و أن هذه المرحلة هي مرحلة إعداد و ترتيب للوجود الانساني و للاستخلاف الإلهي للانسان في هذه الأرض، و لإعداد الانسان يجب أن يمر بهذه المراحل، يجب أن نلاحظ أن الأمر الإلهي (فلا تقربا هذه الشجرة)، لا يمكن أن يكون أمرا تكليفيا مولويا يعني ليس كأمر الله لنا بأن لا نرتكب المعاصي، الله جل و علا لم يأمر آدم أمراً مولوياً لأن آدم معصوم منذ أصل الخليقة، يستحيل أن تصدر منه معصية، و إنما هذا الأمر أمر تكويني كقول الدكتور للمريض لا تأكل من هذا الطعام فإنه سوف يؤدي بك إلى الإصابة بالحساسية، الدكتور ليس له مولوية على المريض بحيث عندما يقول له لا تأكل، فإذا أكل فقد عصى، و إنما يقول له أنت إذا أردت أن تنجو من هذه الحساسية فابتعد عن هذا الطعام. الله جل و علا يرشد آدم إلى هذا المعنى أنك إذا أردت أن تستقر و تسكُن في هذا المكان فلا تقرب من هذه الشجرة، المقدار المتيقن من مجموع هذه الآيات أن آدم خُلق للأرض لا للجنة و خُلق ليأكل من هذه الشجرة و أن هذه الشجرة تؤدِّي للكشف عن سوأته (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)[4]، هناك علاقة بين هذا الأكل و بدُوّ السوأة، و هناك علاقة بين هذا الأكل و بدُوّ السوأة و النزول إلى الأرض و التوبة.

 

3/ آدم رمز الحركة التكاملية الانسانية

خلاصة ما يمكن أن نفهمه من مجمل هذه الأمور أن آدم هنا سيكون رمز الانسان، رمز الحركة التكاملية للانسان، الله جل و علا خلق الانسان و جعله مُستخلَفاً، فتساءلت الملائكة عن سبب الإستخلاف و نحن نسبّح و نقدّس لك، فيفترض أن لا يكون هناك شيء مستخلَف لأننا نحقق المطلوب، إذن المطلوب هو التسبيح و التقديس و لكن هذا لا يتحقق إلا بآدم عليه السلام و في هذا المسير، و أن آدم أول ما خُلق كما تدل مجموع الروايات خُلق متألِّهاً يعيش حالة من التألُّه و الانقطاع لله و الأنس بالله، ليس فيه أي صلاحية لإعمار الأرض و الإستخلاف لأنه نفخة ربانية نفحة ربانية عطاء إلهي، فكان هذا الموجود النقي الصافي يحتاج إلى أن يعبُر مراحل لتكتمل مِرّته و استواءه و تفاعله الروحي و البدني ثم إذا نضجت فيه هذه الحالة يكون مؤهّل على أن ينزل الأرض و لكن بقاعدة (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا... ) إذن النزول في الأرض يهيء الانسان للاختيار و يهيئه للاستعداد، في الانسان قابلية كما تدل الآيات و الروايات الكثيرة (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)[5] (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[6] ، كلها تدل على أن الانسان نزل و طوى هذه المراحل ليحقق هذه الوضعية التي نعيشها نحن اليوم من الاختيار و وجود مساحة قدرة عند الانسان ليتحرك و يزرع هذه الدنيا -يعني الوجود الأخير الداني- ليبني به الآخرة، هذا الوجود يحتاج إلى ثلاثة عناصر تعطيه تمام الصلاحية:

 

4/ العناصر الأصلية في الحركة التكاملية

العنصر الأول، و هو ما كررناه كثيرا من أن عملية الخلق و الفطرة و عملية الميثاق و الاستخلاف كما هو ديدن هذه الآيات التي تتكلم عن وقائع خارجية و ليست مجرد تلازمات منطقية هذه كلها الآن في زمان واحد و ليس هناك تتالي زماني، بل حتى الآخرة و الجنة و النار هي الآن قائمة، كل ما هنالك أن هناك ظهور و انكشاف و خفاء.

العنصر الثاني، هي أن هذا الإيجاد من الخلْق و البثْق والفطرة و الميثاق و الوجود في هذا العالم و الآخرة أيضاً، كله و إن كان قد تحقق و له تقرر في الخارج، يعني الجنة والنار سوف لن يأتيان في المستقبل بل هما موجودان في الخارج متقرِّران كما أن الميثاق لم يوجد في الماضي بل هو موجود في الخارج متقرر، هذا الوجود لا يعني نهاية الفيض الإلهي لا نعني هنا بأن جزئية حصلت و انتهت و إنما هو حركة فيض ربّاني دائمة (يا دائم الفضل على البرية) الفيض الإلهي مستمر طوال هذا الوجود و في عمق هذا العالم بمعنى أن هذا الإيجاد الإلهي لا زال في حالة فيض و عطاء و استمرار، الإستخلاف الإلهي ليس كالإستخلاف الحاصل في حياة الانسان حيث يرفع المستخلِف يده ليضع المستخلَف يده؛ بل هو جريان إرادة المستخلِف من خلال المستخلَف و في عمق وجوده، و هذه المسألة تحتاج في الحقيقة إلى تأمل و فهم دقيق كما تقول الآيات (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ)[7] ، هناك رمي منك منفي في حين ثبوته و لكنه يحكي عن رمي الله عز وجل، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)[8] ، هذا ثانياً.

العنصر الثالث أن هذا الفيض الإلهي له مساحة يسميها أئمتنا ( بالبداء، و أن لله في كل يوم شأن و أن هذا العالم على أنه متقرِّر و موجود إلا أنه في حالة تجدُّد و حيويّة و حركة، يفسر لنا هذا معنى الإستخلاف و دور الانسان في فاعلية هذا الوجود، و هذا المركب المندمِج بين مجموع هذه العناصر يحقق الواقع الأرضي للانسان، تتداخل الإرادة الإلهية بإرادة الانسان بفاعلية الانسان بالمشيئة الإلهية و هذا ما يمكن أن يسمى أيضاً بالتشفير العالمي، كل هذا الوجود قائم على التشفير، ماذا يعني التشفير؟ هذه البذرة أو نواة التمرة، فيها كل ما في النخلة الكبيرة، هذا الموجود الطويل العريض منطوٍ انطواءً مادياً في هذه النواة الصغيرة! الآن العلماء يستطيعون تشريح هذه النواة و استخراج كل ما سوف يتحقق في مستقبلها من معالِم! كذلك الانسان، هذه النواة عندما توضع في بيئة صالحة فإنها تنمو، وعندما لا تجد البيئة الصالحة فإنها لا تنمو لا تكبر لا تأخذ مداها، كذلك حركة هذا الوجود يعيش هذه المرتبة، فيه تشفير فيه ميثاق، فيه فطرة فيه ركائز تُحركه في اتجاه معيّن و لكن إذا تحرك في أسباب طبيعية و أخذ مداه الصحيح فإنه يحقق المطلوب و إذا لم يجد هذا المدى الصحيح فإنه يتعثر و كذلك الانسان وُجد في هذا العالم ليحقق المراد، و لكن هو الآن له مدخلية في أن يحقق هذا المراد يستطيع أن يفعّل هذا الأمر فيؤثر في سرعة حركة التكامل البشري، يسرّع و يؤثر و يُحدث أثراً ليس فقط في دائرته الخاصة بل (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ)[9] لاحظوا أن فساد السماوات و الأرضين بإرادتك أنت و فعلك أنت و عملك أنت، لو أن الله أعطاك المجال لفسدت السماوات و الأرضين و لكن الله جل و علا أعطانا مجالاً محدوداً و بمقدار هذا المجال المحدود نستطيع أن نُوجد الفساد كما أحدثناه في الواقع وكما نلمسه في واقع الانسانية اليوم من دماء و قتل و سفْك و حروب و فقر و ما شاكل ذلك و نستطيع نحن أن نُوجِد الخير و السعادة في هذه الدنيا و الآخرة.

الخلاصة أننا نحن في هذه المرتبة الفعلية الوجودية مستخلَفون من قِبل الله عزّ و جلّ و أنه في ضمن معادلة الفيض الإلهي و المدد الإلهي المستمر الدائم و في ضمن مساحة الحركة في حالة البداء التي سوف نتكلم عنها إن شاء الله بشكل أكثر تفصيلي في جلسات لاحقة و نكتفي بهذا المقدار و الحمدُ لله ربّ العالمين و صلى الله على محمد و آل بيته الطيِّبين الطاهرين.     

 


[1]  البقرة/ 34-39.

[2]  طه/ 115.

[3]  طه/ 55.

[4]  الأعراف/ 22.

[5]  البلد/ 10.

[6]  الانسان/ 3.

[7]  الأنفال/ 17.

[8]  نفس الآية السابقة.

[9]  المؤمنون/ 71.

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني