هندسة النفس ومركزية المعتقد (3): معالم عوالم الوجود في قوس النزول (عالَم الإستخلاف (ج1))
01-07-2022
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين. تحدثنا في الجلسات السابقة عن بعض المراحل التي تطويها النفس الانسانية لتصل إلى مستقرّها و هذا الوضع الذي نعيشه اليوم المسمى بالإستخلاف الإلهي، و قلنا أن المرحلة الأولى هي مرحلة الإنفطار و الفطرة و أشرنا إلى الآيات القرآنية التي تشير إلى هذا المعنى و تنصِّص على هذه الحقيقة، ثم المرحلة الثانية و هي مرحلة الميثاق و اليوم نتحدث بشكل أكثر تفصيلي نسبيا عما يرتبط بالإستخلاف.
يقول الله عز و جل في محكم كتابه الكريم: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ( [1] صدق الله العلي العظيم.
1/ نظرَة إجماليَّة في آية الإستخلاف
هذه الآيات كالآيات السالفة التي تحدثنا عنها، تتحدث عن هذه العوالم والمراحل، و قبل الحديث الاستراتيجي العام، نريد أن نتلمّس بعض إضاءات هذه الآية، يقول القرآن الكريم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ؛ قلنا بالأمس (و إذ) يعني وحين، الواو يعني واذكر يارسول الله6، يقلون (إذ) ظرف متعلقةً باذكر، اذكر تلك المرحلة، يعني هناك مرحلة سابقة تحققت فيها هذه الأمور، (و إذ قال ربك)، الله جل و علا يخاطب الملائكة في أي صقع؟ في أي مرتبة؟! نحن سنتكلم عن هذه المعاني بالإجمال و إلا فإن هناك أسئلة و إثارات تحوم حول كثير من هذه النقاط قد لا نستطيع الإجابة عليها، (و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)؛ الأرض! يعني أين؟ يعني هذه الأرض، الله جلَّ و علا عندما كان يخاطب الملائكة أين كانوا؟ كانوا في السماء السابعة، اين تقع الأرض من السماء السابعة؟ تصوروا هذه الأجرام و الأفلاك و المجرّات الضخمة، الأرض ليست إلا هباءة في ضمن هذه الملايين من السنوات الضوئية، الكلام ليس عن الأرض، نحن نتصور أن الأرض هي هذه البيوت التي تحيط بنا و وطننا ولا نتصور شيء أبعد!، أنت انظر من الزاوية التي يتحدث بها القرآن لا تنظر من الجِحر الذي تعيش فيه، اخرج من هذه القوقعة!، الأرض يعني ما يقابل السماء، الله جلَّ و علا سوف يجعل خليفة أين؟ في الأرض، في عالم الأرض، الآن لعل الانسان بعد سنوات إذا هيمَن على كثير من الأجرام، يقولون أنهم سوف يستحدثون أماكن للعيش هنا و هناك، لعلَّ الانسانية يوماً ما تذهب و تعيش في أصقاع أخرى من هذا الكون، الأرض ليست هي خصوص هذا الجرم الخاص، فلنتعامل مع الآيات بسعة أُفق. (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، إذن تعلم الملائكة أن هذا الإستخلاف و هذا الخليفة سوف ينتج منه إفساد و سفك للدماء، الآن كيف علموا هل هناك أناس اسمه النسناس و أنهم رأوا أن ابليس كان منهم و أنه عصى الله ، هذه أمور أخرى، الملائكة تعلم أن هذا الإستخلاف يلازم الإفساد و يلازم سفك الدماء، في الحال أنه نحن نسبِّح بحمدك و نقدّس لك، الغرض من هذا الإيجاد هو التسبيح و التقديس، نعم! هم أصابوا في أنه الغرض من إيجاد الموجودات هو التسبيح و التقديس، و الآن هذا الاستخلاف هل يراد منه أن يحقق من التسبيح و التقديس ما هو أدق؟ يُفترض ذلك، نحن مع الملائكة الآن؛ يقولون نحن نحقق التسبيح فلِمَ تخلق هذا الخلق الذي يحقق الفساد و سفك الدماء؟ منطق صحيح بالإجمال، (قال إني أعلم ما لا تعلمون)، أنتم لا تحيطوا بكل ما أحيط به من علم، يبرهن لهم على سعة علمه أي يوقع في أنفسهم ذلك، ثم سوف تشير خاتمة الآيات إلى وقوع هذه الحقيقة فعلاً. (و علَّم آدم الأسماء كلها) الان ما هي الأسماء هل هي أسماء الأشياء أو أسماء الأئمة هناك آراء و لكن الأسماء في القرآن لا يقصد بها الألفاظ الدّالة على المعاني دلالة اعتبارية تواضعية، بل الأسماء هي حقائق الأشياء في مرتبة من مراتبها، يطلِق القرآن على حقائق الأشياء أسماء (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)[2]؛ يعني لم نجعل له مثيل، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)[3] يعني أن هناك شيء واقعي تكويني خارجي اسمه اسم الله ،هذه الأشياء اسمها أسماء الله، (علّم آدم الأسماء) الآن ماهي حقيقة الأسماء؟ لنتركها على نحو الإجمال، إذن آدم عُلِّم الأسماء كلها، ثم عرض الأسماء على الملائكة، (فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ)، ما هو المقصود بهؤلاء؟ هل هي أسماء الأسماء أم هناك أمر آخر؟ لنبقيه على ما هو عليه، و لكن طُلب من الملائكة أن يعلَموا ما علّمه آدم إن كنتم صادقين؛ في دعواكم أن الاستخلاف سلبي و ليس إيجابياً، (قالوا سبحانك) أنت أجل و أشرف و أطهر من أن نحيط علماً بما لم تزرع في أنفسنا، (سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا) حدود إدراكاتنا و وجداناتنا بمقدار ما تهبنا أنت إنك أنت العليم الحكيم، أنت المحيط بكل شيء، هنا الله جلَّ و علا قال لآدم أنبئهم بأسمائهم، البعض يقول أن الإنباء غير التعليم، لاحظوا أولا الآيات تعبّر بـ (علّم ادم الأسماء كلها)، ثم (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)قالوا سُبحَانّك لا عِلم لنا)، هنا كله علوم إثباتاً و نفياً، هنا الملائكة تستطيع أن تستقبل الإنباء الله جل و علا لم يعلّمهم و إنما آدم أنبأهم، الآن ما حقيقة العلم؟ ماحقيقة الإنباء؟ و لكن شرف الرفعة للملائكة بالإنباء جاء عن طريق آدم، هو الذي أعطى الملائكة مدد جديد ما كانوا يمتلكونه بإنبائهم أسماء هؤلاء، (فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ)؛ إذن تمت عليكم الحجّة، آدم يعلم ما لا تعلمونه و أنه هو الذي أنبأكم و منّ عليكم و أعطاكم، (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) صدق الله العلي العظيم.
2/ آراء العلماء في آية الإستخلاف
ما نريد أن نعلِّق على الآيات الكريمات أنه أولا في قراءتنا للآيات نستفيد مما ذكرناه بالأمس من المحاولات الاربع في فهم آية الميثاق و أن هناك من حمل هذه الآيات على ظاهرها إطلاقاً، قال هكذا جرى في الواقع و أن الله قال و الملائكة قالت و حدث تبادل قولي لفظي بين الله و الملائكة و بين الله و آدم، أي حمل الأمور على ظاهرها تماماً.
هناك قراءة ثانية تقول أن الحمل على الظاهر غير ممكن لأن الله لا يتلفظ بألفاظ و لا يخاطب الملائكة بألفاظ و لا يليق بالملائكة أن تعترض على الله، يقال أن الرازي يقول أن الآيات التي تتكلم عن خلق الشيطان و ابتلاء آدم، فيها إثارات و أسئلة لو اجتمع الإنس و الجن لما استطاعوا أن يجيبوا عن هذه الإشكالات، لماذا الله خلق الملائكة؟ لماذا خلق الشياطين؟ لماذا قال لهم؟ لماذا قالوا له؟ ما معنى هذا الكلام؟ هناك إثارات كثيرة، لا تُعالَج إلا بما سوف نشير إليه بعد قليل. إذن هناك من يرى بأن هذه الآيات تحمل على ظاهرها مطلقاً و هناك من يرفض ظاهر هذه الآيات، المنهج الثالث هو الذي يحاول أن يفسر هذه الآيات و آيات الميثاق و غيرها مما مرّ علينا، يقول أنها تُحمل على نحو من التمثيل و تقريب الأمور العقليّة بتمثيلات حسيّة مادية، كأنما الله قال و الملائكة قالوا، هذه الحوارات لم تقع في الخارج و إنما القرآن يقرِّب هذه الأمور لأذهان الناس من خلال هذه القصَصِيّة.
القراءة التي يتبناها السيد الطباطبائي ! أن هذه الأمور كما هو الحال في آية الميثاق و ما يماثلها كلها أمور حقيقية أمور تجري في الخارج يعبر عنها القرآن بتقريبات، إذن هذا هو المشرب الأساس في فهم الآيات.
الشيخ عبدالله النمر
مشاركة
التعليقات
لا توجد تعليقات
أضف تعليق علني