هندسة النفس ومركزية المعتقد (2): معالم عوالم الوجود في قوس النزول (عالَم الميثاق)

01-07-2022

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين. نستهل أحاديثنا بعد بسم الله الرحمن الرحيم بالتبريك بهذه الأيام و هذه الساعات والتوفيقات و الهِبات الإلهيَّة، نرجو من الله سبحانه و تعالى أن يوفّقنا و إياكم إلى استثمارها و الاعتناء بها و إعطائها حقّها في أنفسنا و في ذواتنا إن شاء الله

قال الله عز و جل في محكم كتابه الكريم: )وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( صدق الله العلي العظيم.

هذه الآية تقع في ضمن سلسلة آيات تتحدث عن الحركة الوجودية للانسان. أشرنا بشكل سريع في ليلة البارحة إلى الآية التي تتكلم عن فطرة الانسان، و ذكرنا أن الانسان في حركته التنزلية الوجودية في هذا العالم عبَر بمراحل، اصطلحنا على المرحلة الأولى بأنها مرحلة الفطرة، الليلة نتحدث عن مرحلة الميثاق.

1/ آية الميثاق

هناك في ذيل هذه الآية روايات كثيرة جداً، و أبواب من الروايات: روايات الطينة و روايات الذَر تتكلم عن هذه الآية، نلقي إشارات مجملة في ما يرتبط بالآية، يقول الله عز و جل (وإذ) يعني و اذكر حينَ و اذكر ذاك الوقت، الخطاب للرسول تذكَّر، كأنما هناك وقت سابق، في ذلك الوقت الذي (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) هنا (من ظهورهم) يسمى بدل (من بني آدم) من أي مكان من بني آدم؟ من ظهور بني آدم، ماذا أخذ؟ أخذ ذرية بني آدم لأنه معلوم طبياً أن الخلَف يكون في ظهر الرجل و بطن الأنثى، فأخذ الذرية من أصل ظهر بني آدم ، (و أشهدهم) هنا روايات كثيرة لن نتعرض لنصوص الروايات لكثرتها و لكن سوف نستعين بها، أن الله جل و علا أخذ الذرية و نثرهم كالذَّر! كل البشر، كل العالم، (أشهدهم على أنفسهم) أي أقام الحجة عليهم، ألا تشهدون أني أنا ربكم؟، أنا حاضر ظاهر بيّن عندكم، تشهدون على أني بارئكم و خالقكم؟ أ لست بربكم؟ قالوا بلى، هناك بحوث في اللغة العربية أنهم لو قالوا نعم لكفروا، ففي اللغة العربية إذا كان السؤال بالنفي مثل هذه الآية أ لست ربكم؟ فالجواب الإثباتي يكون ببلى و ليس نعم، قالوا بلى ليس فقط أقرّوا بربوبيته قالوا بلى أنت ربنا، شهدنا على ذلك! هذا الإقرار و هذا الإلتزام يكون حجة من الله على الانسان ، لا تقول يوم القيامة أنك كنت غافل، هذا أمرٌ مستقر في أعماقك (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنّا عن هذا غافلين)، الغفلة ليست هي عدم العلم، الغفلة هي الإحاطة و لكن مع عدم الإلتفات، أنت تعلم في أعماقك، لاتستطيع أن تعتذر حتى بالغفلة و لا تستطيع أن تقول السياق الأبوي والتربية، لا يمكنك القول (إنما أشرك آباؤنا) لسنا نحن المشركين، آباؤنا أشركوا و نحن كنا ذرية من بعدهم، وُلدنا في بيئة من الشرك و ساقتنا البيئة، لم نستطع أن نخرج من هيمنة هذا الشرك و كنا ذرية أي أتباعهم من بعدهم ، (أ فتُهلكنا بما فعل المبطلون)، الإبطال ليس مِنّا بل من آبائنا، الإبطال هم شرعوا به و نحن كنّا ذرية من بعدهم ضِعاف، القرآن الكريم يقول لا يوجد حجة على الله لا من الغفلة و لا من هذا السياق، تقريباً هو هذا مجمل ظاهر الآية و أيضا ظواهر الروايات الكثيرة كلها تدور حول هذا المعنى.

2/ آراء العلماء في حقيقة الميثاق

يبقى أن هناك أكثر من موقف للعلماء تجاه هذه الآية و الروايات التي في ذيلها، نذكر منها أربعة مواقف:

1/2- موقف الشيخ الصدوق 

 الموقف الأول للشيخ الصدق في اعتقاداته ذكر أنه يلتزم بظاهر هذه الآية و بلوازم هذا الظاهر، هذه الآية يلزمها أن هناك عالم سبق هذا العالم و أننا وُجدنا في ذلك العالم و استُشهدنا على هذا المعنى و أن أرواحنا كانت موجودة! إذن يُفترض أنّ الأرواح سابقة و دائمة، في بعض الروايات أن هذه الأرواح جُعلت في ذر، الذر هو الحيوان الصغير كالنمل مثلاً، ثم هذه الأرواح نُقلت الى هذه الأبدان و الآن جئنا في هذا العالم فنحن ملزمون بما جرى في تلك العوالم، إذن الشيخ الصدوق يأخذ بظاهر هذه الآية و الروايات التابعة لها بتمام الاستسلام.

2/2- موقف الشيخ المفيد 

الاتجاه الثاني مقابل تماماً لهذا الاتجاه و هو اتجاه الشيخ المفيد، و هو معروف بميله للدراسة التعقليّة و عدم التقيد بالظواهر، فهم يرفض هذا الظاهر بتاتاً، يرفضه بكل لوازمه بل يستدل بلوازمه على رفضه، يقول أنّ هذا المعنى الظاهر إنما يقول به الحَشَويَّة من الشيعة و أهل النسخ من الملل الباطلة، التناسخ يعني أن أرواحنا كانت موجودة في عوالم سابقة في أبدان أخرى و أنها لا تفنى بل تتنقل من بدن إلى آخر. و يشنِّع على هذا القول و يقول أن الروايات التي تأتي في ذيل الآية هي روايات آحاد لا تُوجِب علم و لا عمل، فيرفض هذا المعنى من رأس، الآن كيف يفهم هذه الآية هذا أمر آخر لكنه يرفض المعنى الظاهري.

3/2- مشرب التمثيل وليس الواقع

هناك محاولة ثالثة قد تكون أرفق بالحال لا تذهب إلى حدّ القبول المطلق و لا إلى الرفض الحادّ و إنما تفترض أن هذا المعنى و هو الإشهاد الذي نسميه بالميثاق هو استدلال عقلي؛ حيث أن الانسان إذا نظرنا في واقعه و في نفسه كان نطفة ثم أصبح في تطور دقيق علمي، يكشف هذا التطور الدقيق العجيب الغريب عن أن هذه الأمور ليست اعتباطية و أن هناك حكيم مدبِّر ربّ يدير هذه الأمور، و أن هذا الدليل العقلي من الوضوح و البيان و التمام بحيث يُمَثّل له بهذه القصّة (و إذ أخذ ربك... و أشهدهم) ، كل هذا لم يحدث واقعاً و إنما هناك حُجة عقلية قائمة، وهذا الدليل العقلي يُمثّل له، فلنسمي هذا المشرب بمشرب التمثيل أن هذا من باب المثال و هذا المشرب في الحقيقة -الذي حمل الآية و الروايات التي في  ذيلها على أنها ترجمة لمقتضى قواعد العقل- يرى أن هذه الطريقة في القصص و الحكايات هو ديدن القران الكريم فهم يفسِّرون كل من الموارد المماثلة القرآنية على هذه الأساس مثلاً يقولون أن قوله عز و جل (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[1] ؛ متى تحدث الله مع السماوات و الأرضين؟ ، يقولون كل هذا ليس له حقيقة في الخارج و إنما هذا ترجمة لواقع الكون، نعم! هذه استدلالات عقلية و تقريب المعقول بالمحسوس، أنت عندما تريد أن تبيّن لابنك أن علاقة الحب بينه و بين أخيه علاقة لطيفة لذيذة، تقول له أنها مثل الحلاوة و الطعم الجميل، هذه العلاقة ليس لها نكهة و لا مادة لتكون حلوة!، هكذا الانسان في كثير من شؤونه يمثِّل الأشياء النظرية المجردة بأشياء مادية محسوسة، مثلا عندما تريد أن تقول لابنك أن هناك شيء مُرعِب مُخيف تقول له يأتيك أسد، أنت تريد أن تقول له أن هناك خطر فتمثّله بالأسد، لاحظوا هم يحملون أغلب الآيات القرآنية، المزاج القرآني، اللغة القرآنية على هذا النحو! أنها سجالات عقلية تمثَّل للانسان ، مثلا قوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[2] ؛ يقولون أن الدليل العقلي يبين أن هناك انسجام كوني و تناغم يطلق عليه  تسبيح و تهليل و انقياد، إذن هناك دليل عقلي نجسّده في الواقع، أيضاً قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا[3]، و كثير من الآيات القرآنية مثل قصة آدم % (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ)[4] ، يقولون هذا الحوار بين الله جل و علا و الملائكة ليس أمراً جرى في واقع الكون و إنما هي تقريبات حسيّة تجسيدية لما يُفترض أن يدركه العقل بتجرده و إدراكاته، لكي تسهُل لعموم الناس فهم الأمور في الخارج نجسدها لهم، فهذه الآية عندما تتكلم على (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ)، كل هذا الكلام ليس له واقع خارجي و إنما هو استدلال عقلي بدل أن نصيغة باستدلالات فلسفية معقّدة نمثّل لهم كبقية الآيات التي أشرنا إليها، كلها في الواقع استدلالات عقلية يجسدها القرآن للانسان تجسيداً ماديا على نحو من القصَصيَّة و الحوارات و قالَ و قلت.

4/2- مشرب الواقع و ليس التمثيل

الاتجاه الرابع في هذا المقام هو للعلامة الطباطبائي !، يقول القضية ليست مجرد تمثيل بل هي مرتبيَّة وجودية، يقول أنّ هذا العالم الحسِّي مسبوق في الحقيقة بعالم واقعي تكويني جرت فيه هذه الأمور، ليست المسألة مجرد تقريب الصورة الذهنية، بعد أن كانت مجرد صورة ذهنية و التزامات عقلية نحوّلها إلى صورة مادية تحكي عن جريانات في الخارج!؛ بل هناك مرحلة ملكوتية قبل هذه المرحلة المُلكية، في تلك المرحلة الملكوتية جرت أشياء! الان ما الذي جرى في ذلك العالم؟ كيف يُصيغه القرآن الكريم في هذه الصياغة؟! هذا أمر آخر، إذن هناك اشياء تكوينية قد حصلت بل أن العلامة وأهل هذ المشرب يفهمون كل الآيات التي مر ذكرها على هذا النحو، أن هذه الأمور ليست أموراً عقلية و استدلالات عقلية كما يذهب السيد شرف الدين، عنده كتاب بعنوان فلسفة الميثاق و الولاية، هناك يفسر كل الميثاق أن الدليل العقلي يدل على أن للانسان رباً و أن القرآن يجسِّد هذا الدليل العقلي بهذا التمثيل ويستدل على هذا الرأي بقوله أن هكذا هي لغة القرآن و لغة العرب و هذا هو الجاري في ألسنة الناس و يأتي بشواهد كثيرة، و ينسبون أيضا هذا المشرب للسيد المرتضى !، لكن العلامة الطباطبائي! يقول القضية ليست مجرد استدلالات عقلية و تلازمات منطقية! بل هي أشياء واقعية يحكيها لنا القرآن بعبارات بسيطة.

لغة القرآن في بيان الواقع

هنا أريد أن أبيِّن هذا المعنى بشكل أكثر تفصيلاً، و هو أنه عندما نقول عالم المُلك مسبوق بعالم ملكوت فإننا نتصور أن هناك تتالي زمني! الشيخ المفيد الذي ينكر هذا الكلام يقول لأنه لا أتصور أنه وقعت هذه الأحداث في سالف الزمان ثم نسيت كل شيء! إذا ذُكَرت سأتذكر، ثم يأتي بمثال يقول إذا كنت في بلد و جرَت أمور ثم انتقلت من ذلك البلد إلى بلد آخر، هل لو سئلت عن أحداث ذلك البلد الأول، سأقول أنني نسيت كل ما حدث؟! غير معقول. نحن نقول أن المسألة ليست في تفاوت مكاني و لا في تتالي زماني، القضية انبثاق رُتبي، نرجع هنا إلى ما ذكرناه بالأمس في الفطرة، هي حركة بسيطة و لكنها انبثاقيّة هي مثل البذرة التي تنفطر عن نبتة، هذا الإنفطار والإنبثاق يكون في ضمن إطار معيّن، القرآن الكريم يُسمّيه ميثاق، هنا الفرق بين التمثيل و بين ما يذهب إليه العلاّمة الطباطبائي، حيث أنّ أهل التمثيل يقولون أنه لا يوجد محكي عنه في الواقع بل هو مجرد تصوير حسِّي لقضية ذهنية نحن نقول لا، هناك جريانات واقعية خارجية يبينها لنا القرآن الكريم بنحو من البيان يتفق مع لغة القرآن و أن هذه هي لغة القرآن في كل الأمور، و سنُورِد دليلين على أن لغة القرآن ليست تقريباً لأمور عقلية بحكايات حسيّة بل هي حقيقةً أمور واقعية، المورد الأوّل أنه في نفس الآيات التي استدل بها القوم على أنّ هذه الأمور ليست إلا تمثيليات في قوله عزّ و جل (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، قالوا لا يوجد شيء في الخارج اسمه تسبيح، في آية الميثاق (أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) هنا لا يوجد شاهد و لا مشهود فالمسألة ليست إلا استدلالات عقلية هنا يقولون لا مسبِّح و لا مسبَّح أيضاً، نحن نقول أن هذا الكلام غير مُمكن لأنكم أنتم تقولون أن التسبيح هو هذا الانسياق التكويني، نفس انضباط السماوات و الأرضين و ما بينهن ضمن القوانين الفيزيائية هو هذا التسبيح، نقول هذا ليس هو الظاهر لأن الآية تقول (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) هناك شيء وراء الانضباط الفيزيائي لا نحيط به لا تطاله عقولنا، إذن هناك واقع خارجي يسمى تسبيح و ليس مجرد هذا الانقياد و الإنضباط، الآن يدّعى أن هناك تسبيح عن وعي و إدراك و أن السماوات و الأرض و ما بينهما تدرك بنحو من الإدراك، هذا أمر قد يستعصي استيعابه و فهمه و لكن نجزم أن هناك شيء خلف هذا الوجود الظاهري يسمى تسبيح تعبِّر عنه الآية، و هكذا يجب أن نفهم كل الآيات القرآنية (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) كل هذه الأمور تحكي عن واقع. الدليل الثاني هو رواية ينقلها ابن أبي الحديد عن سعيد الخدري أن الخليفة الثاني في أول حجة له عندما ذهب إلى الحج، يقول سعيد الخدري حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته فعندما دخلنا المسجد الحرام دنى من الحجر الأسود قبّله و استلمه و قال إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لاتنفع و لولا أني رأيت رسول الله 6 قبّلك و استلمك لما قبّلتُك و لا استلمتُك –إذن هذه قناعة عمر أن المسألة تعبدية لأن رسول الله6 استلم الحجر و قبّله أنا أفعل ذلك و إلا هذا حجر -لعل كثير منّا رأى هذا الحجر- ما الذي ينطوي عليه هذا الحجر؟ حتى لو قلنا أنه يسبِّح و حجر من الجنة و كان أبيضاً... لكن بالنتيجة هو حجر و تسبيحه كناية عن أمرٍ عقلي، هكذا مشربُهم- فقال علي % بلى إنه ليضرّ و ينفع، و لو علمتَ تأويل ذلك من كتاب الله لعلمتَ أن الذي أقول لك كما أقول- يبدو أن أمير المؤمنين % يتردّد في قدرة الآخرين على استيعاب هذا المعنى- يقول لو علِمتم بحقيقة ما أقوله لأدركتم، و لو علمتم معاني القرآن بشكل صحيح لعلمتم أن ما أقوله هو الصحيح ، ثم قال %: قال الله تعالى و (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)، فأورد هذه الآية ثم يقول % فلما أشهدهم و أقرُّوا له بالربوبية، و أنه عز و جل ربُّهم كتب ميثاقهم في رقٍّ ثم ألقمهُ الحجر، هذه أمور تكوينية و جريانات واقعية الآن ماذا يعني ألقمه؟ الحجر ليس له فم، (بكت عليهم السمات و الأرض)، ليس لها عيون و لا دموع، لكن البكاء ليس مجرد كناية عن حزن الناس بل هناك واقع تكويني خارجي، جريانات تحدث في الواقع، الآن نحن ماذا ندرك من هذه الجريانات الواقعية هذا أمر آخر، و أن الله جلّ و علا عندما اقروا له بالربوبية كتب ميثاقهم في رقٍّ ثم ألقمه الحجر و إنّ له عينين و لسان و شفتين- هنا أمير المؤمنين % لا يريد أن يدَّعي أن له عينين ظاهريتين، كلنا نرى أنْ ليس للحجر ذلك و لكن أمير المؤمنين يتكلم بلغة القرآن عندما يقول القرآن (و أشهدهم على أنفسهم) نحن عندنا من الإشهاد مرتبته الدنيا و هو أنني أرى أمر خارجي فيعبِّر أفراد المجتمع أني شهدت على ما جرى في الخارج أما القرآن عندما يعبِّر بالإشهاد فإنه يشير إلى الإحاطة الوجودية لي بحقائق الأمور، أنا عندما أوجد في هذا العالم مررت بمرحلة تسمى بعالم الميثاق، ما هو هذا العالم متى يأتي؟ هذه النقطة التي أريد أن أتكلم عنها في ما يلي، بعد أن بينّا لغة القرآن في بيانه للأمور.

 

العلاقة بين عوالم الوجود رُتبيّة و ليست زمانيّة

النقطة التالية أن هذه الأمور ليست متتالية زماناً ليس حدث الميثاق مضى و انتهى و الآن تبدأ حالة الحجية و بعد ذلك تقولون يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباءنا، هذه الأمور في التصوير نفككها على مراحل ثلاث و إنما هي في الحقيقة كما تدل الروايات أن الرسول 6 عندما دخل الى الجنة و رأى الملائكة تبني و تقف أحياناً، فسألهم لماذا تقفون قالوا ننتظر المادة، ماهي المادة؟ عمل الانسان، متى تأتي المادة و متى يبنون؟ كله في نفس الآن، في نفس الوقت و الانسان يعمل هم يبنون أنت تبني جنتك الآن و أنت تحقق ميثاقك الآن؛ بمعنى أن هو هذا الآن الذي نعيشه هو في الحقيقة تفعيل للميثاق و بناء الجنة، هناك ظهور وبطون و ليس هناك تتالي زماني، نحن الآن نعيش مرحلة تظهر فيها حالة الإنفطار التي تكلمنا عنها و الآن نعيش حالة الميثاقية، و الدليل على ذلك ارجعوا إلى وجدانياتكم! سوف أختصر، لقلّة الوقت، و لكن أشير إلى طريقة القرآن و طريقة الأئمة عليهم السلام في الإشارة إلى هذا المعنى. أصحاب القول الثالث الذين يقولون بالتمثيل و الاستدلال العقلي، أقول القضية ليست مجرد استدلال عقلي و إنما الاستدلال العقلي يكون صحيح بعد ما أريد أن أشير إليه، القضية هي بناء وجداني، لاحظوا القرآن الكريم يقول أنت أيها الانسان عندما تركب سفينة و تحيط بك الرياح و تنقطع بك الأسباب، أين يتوجه قلبك؟ في رواية أيضاً عن الإمام الصادق % عندما جاءه من يسأله عن ربه قال أ لم تدخل البحر و تحيط بك المخاطر من كل جهة في ذلك الآن أ لم يتعلق قلبك بشيء؟ هو هذا الميثاق و هذه هي الفطرة في قرارة أعماقك، لكن مع الأسف حيث أنَّ الانسان مشغول و مدهوش بملذّات الدنيا و مُربَك في إدراكاته و مشاعره لا يجد هذه الأحاسيس في نفسه، يُفترض أن نتعامل مع هذا الميثاق خلال صلاتنا و عباداتنا و دعاءنا، ليس الدعاء هو أن تقرأ نصاً!، الدعاء هو تفجِّر مكنون هذا الميثاق و تتلمسه في أعماقك ، تتوجه إلى الله عز و جل بحيث تلمس في أعماقك هذا الميثاق و لعلنا ذكرنا رواية تشير إلى قصّة الإمام الصادق مع المشكك الذي طلب من الإمام أن يثبت له وجود الله فقال له الله الذي أوجدك من العدم و رباك مذ أن كنت صغيرا ... حتى قال ابن أبي العوجاء حتى أنه كاد الله أن يظهر بيني و بينه، لقد أثار الإمام الصادق وجداناته و مشاعره فأصبح هذا الانسان يشعر أن الله هو ليس فقط ظاهر بل هو من الظهور بحيث يكون بينه و بين الإمام الصادق القريب منه. نرجو من الله سبحانه و تعالى و أن يوفقنا و إياكم إلى معرفة هذه الحركة الواقعية التسلسلية من الفطرة ثم الميثاق كلها توصلنا إلى مرحلة ثالثة و هي مرحلة الاستخلاف و هذا ما سوف نتحدث عنه في الجلسة اللاحقة إن شاء الله و صلى الله على محمد و آل بيته الطيبين الطاهرين.

 


[1] فصلت/11

[2] الإسراء/44

[3] الأحزاب/72

[4] البقرة/30

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني