هندسة النفس ومركزية المعتقد (1): عالم الفطرة

01-07-2022

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين

نستهل أحاديثنا بعد بسم الله الرحمن الرحيم بالتبريك بهذه الأيام و هذه الساعات والتوفيقات و الهِبات الإلهيَّة، نرجو من الله سبحانه و تعالى أن يوفّقنا و إياكم إلى استثمارها و الاعتناء بها و إعطائها حقّها في أنفسنا و في ذواتنا إن شاء الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث في الحقيقة يرتبط بالحركة الروحية للانسان كما في بعض الروايات أنه (رحم الله من علم من أين في أين و إلى أين)؛ لأن معرفة هذه المعاني تُعطي الانسان الاستواء النفسي و الاعتدال المزاجي و الوضوح الفكري و الاعتدال في السلوك و المنهج، و لكن وضوح هذه المعاني في آفاقها تحتاج إلى أحاديث طويلة، نحن نحاول بقدر الإمكان في هذه الليالي أن نعطي إضاءات بالمقدار الممكن لتبيين بعض جهات هذه القضية.

في البداية نضع بين أيديكم تصور مجمل للفهرسة العامة في البداية سوف نتحدث عن حركة الانسان في قدومه إلى هذا الوجود مرحلة الفطرة ثم الميثاق هذا الذي يسمى عالم الذر،  ثم حالة الاستخلاف و في الاستخلاف حالة الترقي و النمو و التفتح -كما يعبِّر بعضهم مرحلة قوس النزول و مرحلة قوس الصعود- في محطات و مراحل.

1/ آية الفِطرة

الحديث في هذه الليلة سوف ينصبّ في موضوع الفطرة يقول الله عز و جل في محكم كتابه الكريم )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي‏ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ([1]، نريد أن نركز على الحديث في مصطلح الفطرة إلا أنه قبل الكلام عن الفطرة، نذكر المراد بالدين لأن له مدخليّة في فهم المعنى ، الدين هو عبارة عن هذه العقائد و ما يُضمره الانسان من إدراك و تصور لهذا الوجود و ما ينعكس عليه ذلك من سلوك، و أن لهذا الدين واقع تكويني، يراد للانسان أن يُقبل على هذا الدين و يحقق السلوك الواقعي المفترَض، إذن هناك دين الله المحقَّق و فطرة الله متقررة خارجاً، هذا الدين الذي يجب أن  نحققُه لنحقق مقتضى الفطرة الانسانية.

2/ الفطرة بين التفسير و التأويل

للفطرة تفسيرات متعددة حيث ورد في الروايات أن الفطرة هي التوحيد ، الفطرة هي الإسلام، الفطرة هي الولاية و لكن هذه التفسيرات لحقيقة الفطرة هي من باب المصاديق، ومن باب التطبيقات كما يعبر السيد الطباطبائي!. هناك شيء  يسمى تفسير أي تبيين توضيح، و هناك اصطلاح يسمى تأويل، و لا يراد بالتأويل هنا حمل الكلام على خلاف ظاهره؛ بل نقصد بالتأويل هو مآل الأشياء و حقائقها على المستوى الخارجي ) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[2]( تأويل كل القرآن و تأويل معانيه يعني مساره و واقعه، أي انعكاسه الواقعي التكويني الخارجي. الفطرة على مستوى التأويل هو أن الله جل و علا أوجد هذا الوجود ، أوجد هذا الكون ، أوجد الانسان، لاحظوا ضمن هذا المسار الإيجادي: الله جل و علا أوجد هذا الكون و أوجد الانسان. و زرع في الانسان فطرةً، هكذا يُقال، زرع في الانسان فطرة لا بمعنى أن الله جل و علا أوجد الانسان ثم زرع في وجوده الفطرة بل بمعنى أنه في نفس النبْت الإلهي، في نفس الخلْق الإلهي، في نفس الإيجاد الإلهي، أوجده مفطوراً أوجده حياً أوجده واعياً أوجده متطلعاً طالباً راغباً لكل ما هو جميل، طالباً للكمال والجمال والرِّفعة و التسامي و العلُوّ، هذه هي حقيقة الفطرة.

الفطرة في اللغة:

نعم ! الفطرة لغةً هي الإنفطار و الإنشقاق، يقال انفطرت الحبة عن النبته، كذلك الانسان! الفرق أن الحبة و   النبته شيء موجود و ينفطر عنه موجود، أمّا الانسان أوجده الله ، (فطرة الله)؛ يعني إيجاد الله للانسان من العدم، ماهي حقيقة هذا الإيجاد كيف يوجَد شيء من العدم إلى صقع الوجود هذه عوالم أخرى، يقال أنه يستحيل إيجاد المعدوم أو إعدام الموجود و إنما هذا الانسان بعد أن لم يكن موجوداً أصبح موجوداً، الآن هل هو إيجاد من العدم الصِّرف المطلق أو أنه على خلاف ذلك، هذه مسألة أخرى لا نريد الحديث عنها.

3/ الفطرة العامة لجميع الموجودات و الخاصة بالانسان

نريد أن نقول أن وجود الانسان و انبعاثه و انفطاره، معنى انفطاره يعني أن وجوده مفطوراً، أي أنه منطوي على هذه الحالة الخاصة التي يطلِق عليها القرآن الكريم أنها فطرة الله، و طبيعة الحال الفطرة بهذا المصطلح ليست خاصة بالانسان كما لاحظتم في أثناء الحديث، الله جل و علا يقول: )الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ([3] الفطرة ليست خاصة بالانسان ، نعم هي لها امتياز في الانسان؛ بمعنى أن كل ما في هذا الوجود مفطور منطوي على فطرة. لاحظوا أن الحركة الكونية كلها منسجمة متناغمة متّسقة في حركة كلها مفطورة تسير باتجاه الكمال و الرقيّ و اتجاه بلوغ مراتب هي مهيئة لها، هي مزروعة فيها، هي منطوية عليها، حتى جزئيات الكون من الذرّة إلى المجرّة، كلها تتحرك تحركاً مجمَلاً فيه مقدار من الذاتيّة، يعني لاحظوا البذرة، هذه النواة الصغيرة، فيها رغبة ذاتيّة و استعداد و تطلُّب و اندفاعاً، الآن بأي مقدار هذا الاندفاع واعي إدراكي وحُبِّي، هذا قد يستوعب الانسان بعض آفاقه و قد يخفى عليه آفاق أخرى, لكن بالنسبة للانسان هذه المعاني جليّة واضحة أن الانسان يتحرك بالأمور الفطرية حركة واعية إدراكية حُبيّة، يُحبها يميل إليها يتعطش إليها لا يرتوي إلا ببلوغها، هذه هي حقيقة الفطرة، و هذا هو بداية الانسياق، بعد ذلك سوف يأتي الحديث عن مراحل سيطويها الانسان و ينساق إليها كعالم الميثاق والاستخلاف.

4/ النسبة بين الفطرة و شاكلة الانسان

هذه الفطرة هي ماء زلال دافق في أعماق الانسان، في حقيقة الانسان، و لا يراد من الانسان إلا أن يحافظ على هذا الإناء، و هذا النقاء ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ([4] لا يراد منه إلا أن يكون أمين في أن يفعِّل هذا المقتضي، في أن يفجِّر هذه المشاعر و أن لا يلوِّثها، و لذلك نريد أن نميز بين مصطلح الفطرة من جهة و مصطلح الشاكلة من جهة أخرى ) كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِه([5] الشاكلة ليست فطرة، الشاكلة هي هذه الفطرة و لكن بمقدار ما تصبغها الذات الانسانية، الانسان لا يدع هذه الفطرة بنقائها و صفائها بل يُقحِم فيها بعض ذاتيّاته، أهواءه رغباته طموحه مزاجه، كل هذه الأمور تدخل في الفطرة لتلوّثها و لتعطيها صِبغة خاصة و مزاج خاص، و لذلك الفطرة هي عبارة عن هذا الماء الزلال الجاري في عروق الانسان و في عمقه، بينما الشاكلة هي هذه الصِبغة التي يضيفها الانسان على الفطرة فتلوثها و تلونها، و لذلك يوم القيامة سوف يحاسب الانسان حسب شاكلته و إن كان المعيار هو الفطرة، لأنها هي المقياس والآلة التي من خلالها نعرف مدى صفاء و تلوث النفس.

في مثل هذه الأيام الفضيلة، أيام شهر الله الكريم يُترجّى و يُتوقَّع أن نراجِع حركتنا الوجودية ما هي الفطرة و ما هو مقتضاها؟ ما هو الميثاق و كيف صُنِع الميثاق في أعماقنا؟ و كيف نُفعِّل هذا الميثاق في واقع الاستخلاف الذي نحن وجدنا فيه؟، و كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى حديث مُفصّل و يترتب عليها أمور نشير إليها إن شاء الله في جلسات لاحقة، نكتفي بهذا المقدار و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين.

 


[1] الروم:30

[2] آل عمران: 7

[3] فاطر: 1

[4] الشعراء: 89

[5] الإسراء: 84

الشيخ عبدالله النمر

التعليقات

لا توجد تعليقات

أضف تعليق علني